شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ١ - الصفحة ١٨٥
ولا يجوز أن يراد في الأولى نفي الحقيقة وفي الثانية نفي الكمال أو بالعكس لفقد الارتباط حينئذ بين الفقرتين وعدم الانتاج لعدم تكرر الأوسط.
والأول أظهر لما مر، والثاني أنسب بما بعده، ولما بين (عليه السلام) أن المروءة والانسانية بالعقل وكان كل واحد منهما مستورا لا يدركه الحواس وكانت الظواهر أدلة على البواطن كما مر أشار إلى أنه يعرف ذلك بترك الدنيا وعدم الركون إليها، وإلى أن مراتبه متفاوتة في الشدة والضعف بقوله:
(وإن أعظم الناس قدرا الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطرا) الخطر: الحظ والنصيب والقدر والمنزلة والسبق الذي يتراهن عليه، وقد أخطر المال أي جعله خطرا بين المتراهنين، ويجوز إرادة كل واحد من هذه المعاني هنا، أما الأولان فظاهران لأن أقدار الناس عند الله سبحانه في الدنيا والآخرة متفاوتة في الفضل والكمال والقرب والبعد وأعظمهم قدرا من لا يرى الدنيا حظا ونصيبا وقدرا ومنزلة لنفسه ولا يلتفت إليها أصلا لتنور قلبه بضوء عقله وإشراق لبه بنور ربه; فعاد بحيث لا ينظر إلا إليه ولا يرغب إلا فيما لديه ولعلمه بأن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان وسبيلان مختلفان وهما بمنزلة المشرق والمغرب، وأن من أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها، وأن من مشى إلى إحديهما بعد عن الأخرى، وأن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وحلاوة الدنيا مرارة الآخرة.
وأن الدنيا موبقة زهراتها مهلكة شهواتها، باقية آفاتها، دائمة كدوراتها، حائلة بين المرء والطاعة لذاتها، فلذلك ترك الدنيا من وراء ظهره وسار إلى حضرة المولى فصار عنده أعظم قدرا وأرفع مكانا وأعلى شأنا ووجيها في الدنيا والآخرة، ومن المقربين الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، وأما الأخير فلأن الناس في هذه النشأة بمنزلة أهل السياق والرهان يتسابقون لأغراض مطلوبة وغايات مقصودة وأعظمهم قدرا عند الله تعالى من شرق عقله وكمل علمه فصار بحيث لا يرى الدنيا وزهراتها الغائلة (1) ولذاتها الزايلة ومقتنياتها الباطلة خطرا وسبقا لنفسه أصلا بل غرضه من السباق وغايته من الاستباق هو الفلاح بالسعادات الاخروية والفوز بالمكاشفات الربوبية والدخول في زمرة الأبرار وفي جنات تجري من تحتها الأنهار، وبالجملة ترك الدنيا دل على كمال العقل والعلم، وظاهر أن العالم الكامل العقل أعظم قدرا عند الله تعالى من غيره (أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة) فيه تنبيه للغافلين وإيقاظ لهم عن نوم غفلتهم وترغيب للسالكين في الزهادة عن الدنيا وتحريض للعاملين على تحمل المشقة والفناء بتوقع رفع المنزلة وعظيم الجزاء بنوع من التشبيه والتمثيل، وتلميح إلى قوله تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) أي استبدل من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة حياتها السرمدية بالأنفس ونعيمها الأبدية بالأموال

1 - في بعض النسخ (((زهراتها الفانية))).
(١٨٥)
مفاتيح البحث: الخوف (1)، الجواز (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 180 181 182 183 184 185 186 187 188 189 190 ... » »»
الفهرست