رحمه الله تعالى يقول: المدعى عليه دافع له والدافع يطلب سلامة نفسه والأصل براءة ذمته، فأخذه إلى من يأباه لريبة ثبتت عنده وتهمة وقعت له ربما يوقعه في إثبات ما لم يكن ثابتا في ذمته بالنظر إليه واعتباره أولى، لأنه يريد الدفع عن نفسه وخصمه يريد أن يوجب عليه الاخذ بالمطالبة، ومن طلب السلامة أولى بالنظر ممن طلب ضدها. تأمل. وإنما حمل الشارح عبارة البزازية على ما في الخانية من التقييد بالمحلة لما قاله المصنف في المنح. هذا كله وكل عبارات أصحاب الفتاوى يفيد أن فرض المسألة التي وقع فيها الخلاف بين أبي يوسف ومحمد فيما إذا كان في البلدة قاضيان كل قاض في محلة، وأما إذا كانت الولاية لقاضيين أو لقضاة على مصر واحد على السواء فيعتبر المدعي في دعواه فله الدعوى عند أي قاض أراده، إذ لا تظهر فائدة في كون العبرة للمدعي أو المدعى عليه، ويشهد لصحة هذا ما قدمناه من تعليل صاحب المحيط. ا ه.
ورده الخير الرملي وادعى أن هذا بالهذيان أشبه، وذكر أنه حيث كانت العلة لأبي يوسف أن المدعي منشئ للخصومة، ولمحمد أن المدعى عليه دافع لها لا يتجه ذلك فإن الحكم دائر مع العلة. ا ه. وهو الذي يظهر كما قال شيخنا، لكنه لم يأت لرده بوجه يقويه، والظاهر أنه لم يظهر له المراد وهو الذي نذكره في الحاصل آخر هذه العبارة.
وأقول: التحرير في هذه المسألة ما نقله الشارح عن خط المصنف، ومشى عليه العلامة المقدسي كما نقله عنه أبو السعود.
وحاصله: أن ما ذكروه من تصحيح قول محمد بأن العبرة لمكان المدعى عليه إنما هو فيما إذا كان قاضيان كل منهما في محلة وقد أمر كل منهما بالحكم على أهل محلته فقط بدليل قول العمادي:
وكذا لو كان أحدهما من أهل العسكر والآخر من أهل البلد فأراد العسكري أن يخاصمه إلى قاضي العسكر فهو على هذا، ولا ولاية لقاضي العسكر على غير الجندي، فقوله ولا ولاية دليل واضح على ذلك. أما إذا كان كل منهما مأذونا بالحكم على أي من حضر عنده من مصري وشامي وحلبي وغيرهم كما في قضاة زماننا فينبغي التعويل على قول أبي يوسف لموافقته لتعريف المدعي والمدعى عليه: أي فإن المدعي هو الذي له الخصومة فيطلبها عند أي قاض أراد، وبه ظهر أنه لا وجه لما في البحر من أنه لو تعدد القضاة في المذاهب الأربعة كما في القاهرة فالخيار للمدعى عليه حيث لم يكن القاضي من محلتهما. قال: وبه أفتيت مرارا.
أقول: وقد رأيت بخط بعض العلماء نقلا عن المفتي أبو السعود العمادي أن قضاة الممالك المحروسة ممنوعون عن الحكم على خلاف مذهب المدعى عليه. ا ه. وأشار إليه الشارح، وذكر شيخ شيوخ مشايخنا السائحاني بعد كلام: قال في قضاء البزازية: فوض قضاء ناحية إلى رجلين لا يملك أحدهما القضاء، ولو قلد رجلين على أن ينفرد كل منهما بالقضاء لا رواية فيه. وقال الامام ظهير الدين: ينبغي أن يجوز لان القاضي نائب السلطان يملك التفرد. ا ه.
فتحصل أن الولاية لو لقاضيين فأكثر كل واحد في محلة فتفرد القاضي صحيح والعبرة للمدعى عليه، وإن كانوا في محل واحد على السواء فقد سمعت أنه لا يملك أحدهم التفرد فلا فائدة في اختيار أحدهم، وإن أمر كل واحد بالتفرد جاز، وحينئذ فلا يظهر فرق بين كل واحد في محلة أو مجتمعين، فما فهمه المصنف ليس على إطلاقه بل على هذا التفصيل. ا ه. وكان عليه أن يذكر بعد قوله جاز