السلطان فاستشاره في ذلك. وقد أتى ما ذكرناه على ما سألت عنه من بيان صفات المفتي التي ينبغي أن يكون عليها في هذا العصر إذ لا تختلف صفات المفتي التي تلزم أن يكون عليها باختلاف الأعصار.
وأما السؤال عن بيان ما يلزم في مذهب مالك لمن أراد في هذا الوقت أن يكون مفتيا على مذهب مالك فإنه سؤال فاسد إذ ليس أحد بالخيار في أن يفتي على مذهب مالك ولا على مذهب غيره من العلماء، بل يلزمه ذلك إذا قام عنده الدليل على صحته، ولا يصح له إن لم يقم عنده الدليل على صحته. والسؤال عن الحكم في أمر القاضي إذا كان ملتزما للمذهب المالكي، وليس في نظره من نال درجة الفتوى ولا هو في نفسه أهل لذلك. قد مضى القول عليه فيما وصفناه من حال الطائفة التي عرفت صحة مذهب مالك ولم تبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول، وذكر بقية كلامه المتقدم في الفرع الذي قبل هذا. وقال ابن عرفة: وأما شرط الفتوى ففيها لا ينبغي لطالب العلم أن يفتي حتى يراه الناس أهلا للفتوى.
وقال سحنون: الناس هنا العلماء. قال ابن هرمز: ويرى هو نفسه أهلا لذلك. قال القرافي إثر هذا الكلام: وما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكا لان الحنك - وهو اللثام تحت الحنك - من شعار العلماء حتى إن مالكا سئل عن الصلاة بغير حنك فقال: لا بأس بذلك. وهذه إشارة إلى تأكيد التحنيك، وهذا شأن الفتيا في الزمن المتقدم. وأما اليوم فقد خرق هذا السياج وهان على الناس أمر دينهم فتحدثوا فيه بما يصلح وما لا يصلح وعسر عليهم اعترافهم بجهلهم وأن يقول أحدهم لا أدري فلا جرم آل الحال بالناس إلى هذه الغاية بالاقتداء بالجهال والمتجرئين على دين الله تعالى انتهى.
قلت: وقع هذا في رسم الشجرة من جامع العتبية لابن هرمز فيما ذكره مالك عنه وليس فيه ويرى نفسه أهلا لذلك فقال ابن رشد: زاد في هذه الحكاية في كتاب الأقضية من المدونة ويرى نفسه أهلا لذلك وهي زيادة حسنة لأنه أعرف بنفسه وذلك أن يعلم نفسه أنه كملت له آلات الاجتهاد، وذلك علمه بالقرآن، وناسخه ومنسوخه، ومفصله من مجمله، وعامه من خاصه، وبالسنة مميزا بين صحيحها وسقيمها، عالما بأقوال العلماء وما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، عالما بوجوه القياس ووضع الأدلة مواضعها، وعنده من علم اللسان ما يفهم به معاني الكلام. وفي نوازل ابن رشد أنه سئل عمن قرأ الكتب المستعملة مثل المدونة والعتبية دون رواية أو الكتب المتأخرة التي لا توجد فيها رواية، هل يستفتى؟ وإن أفتى وقد قرأها دون رواية هل تجوز شهادته أم لا؟ فأجاب: من قرأ هذه الكتب وتفقه فيها على الشيوخ وفهم معناها وأصول مسائلها من الكتاب والسنة والاجماع وذكر ما نقلناه عنه في البيان في كلامه السابق ثم قال: فهذا يجوز له أن يفتي فيما ينزل ولا نص فيه باجتهاده قال: ومن لم يلحق هذه