مواهب الجليل - الحطاب الرعيني - ج ٨ - الصفحة ٧٥
في معانيها، فعلمت الصحيح منها الجاري على أصوله من السقيم الخارج إلا أنها لم تبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول. وطائفة اعتقدت صحة مذهب بما بان لها أيضا من صحة أصوله لكونها عالمة بأحكام القرآن عارفة بالناسخ والمنسوخ والمفصل والمجمل والخاص من العام عالمة بالسنين الواردة في الاحكام، مميزة بين صحيحها من معلولها، عالمة بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار وبما اتفقوا عليه واختلفوا فيه، عالمة من علم اللسان بما يفهم به معاني الكلام، عالمة بوضع الأدلة في مواضعها. فأما الطائفة الأولى فلا يصح لها الفتوى بما علمته وحفظته من قول مالك وقول أحد من أصحابه إذ لا علم عندها بصحة شئ من ذلك إذ لا يصح الفتوى بمجرد التقليد من غير علم، ويصح لها في خاصتها إن لم نجد من يصح لها أن تستفتيه أو تقلد مالكا أو غيره من أصحابه فيما حفظته من أقوالهم. وإن لم يعلم من نزلت به نازلة من يقلده فيها من قول مالك وأصحابه فيجوز للذي نزلت به النازلة أن يقلده فيما حكاه له من قول مالك في نازلته ويقلد مالكا في الاخذ بقوله فيها، وذلك أيضا إذا لم يجد في عصره من يستفتيه في نازلته فيقلده فيها. وإن كانت النازلة قد علم فيها اختلافا من قول مالك وغيره فأعلمه بذلك كان حكمه في ذلك حكم العامي إذا استفتى العلماء في نازلته فاختلفوا عليه فيها، وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يأخذ بما شاء من ذلك، والثاني أنه يجتهد في ذلك فيأخذ في ذلك بقول أعلمهم. والثالث أنه يأخذ بأغلظ الأقوال. وأما الطائفة الثانية فيصلح لها إذا استفتيت أن تفتي بما علمته من قول مالك وقول غيره من أصحابه إذا كانت قد بانت لها صحته كما يجوز لها في خاصتها الاخذ بقوله إذا بانت لها صحته، ولا يجوز لها أن تفتي بالاجتهاد فيما لا تعلم فيه نصا من قول مالك أو قول غيره من أصحابه وإن كانت قد بانت لها صحته إذ ليست ممن كمل آلات الاجتهاد الذي يصح لها بها قياس الفروع على الأصول. وأما الطائفة الثالثة فهي التي يصح لها الفتوى عموما بالاجتهاد والقياس على الأصول التي هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة بالمعنى الجامع بينها وبين النازلة وعلى ما قيس عليها إن قدم القياس عليها ومن القياس جلي وخفي، لان المعنى الذي يجمع بين الأصل والفرع قد يعلم قطعا بدليل قاطع لا يحتمل التأويل، وقد يعلم بالاستدلال فلا يوجب إلا غلبة الظن، ولا يرجع إلى القياس الخفي إلا بعد القياس الجلي. وهذا كله يتفاوت العلماء في التحقيق بالمعرفة به تفاوتا بعيدا وتفترق أحوالهم أيضا في جودة الفهم لذلك وجودة الذهن فيه افتراقا بعيدا، إذ ليس العلم الذي هو الفقه في الدين بكثرة الرواية والحفظ وإنما هو نور يضعه الله حيث يشاء، فمن اعتقد في نفسه أنه ممن تصح له الفتوى بما أتاه الله عز وجل من ذلك النور المركب على المحفوظ المعلوم جاز له إن استفتي أن يفتي، وإذا اعتقد الناس فيه ذلك جاز له أن يفتي فمن الحق للرجل أن لا يفتي حتى يرى نفسه أهلا لذلك ويراه الناس أهلا له على ما حكى مالك عن أن ابن هرمز أشار بذلك على من استشاره
(٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 ... » »»
الفهرست