القول فله في اختيار المفتيين من أصحابنا من نقادهم مقنع مثل سحنون وأصبغ وعيسى بن دينار، ومن بعدهم مثل ابن المواز وابن عبدوس وابن سحنون وابن المواز أكثرهم تكلفا للاختيارات، وابن حبيب لا يبلغ في اختياراته وقوة رواياته مبلغ من ذكرنا. انتهى كلام ابن فرحون. ثم نقل عن القرافي في كتاب الأحكام في تمييز الفتاوى عن الاحكام ما نصه: الحاكم إن كان مجتهدا لم يجز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلدا جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به، وإن لم يكن راجحا عنده مقلدا في رجحان القول المحكوم به إمامه. وأما اتباع الهوى في القضاء والفتيا فحرام إجماعا. نعم اختلف العلماء إذا تعارضت الأدلة عند المجتهد وتساوت وعجز عن الترجيح، هل يتساقطان أو يختار أحدهما يفتي به؟ قولان للعلماء. فعلى أنه يختار للفتيا فله أن يختار أحدهما يحكم به مع أنه ليس براجح عنده، وهذا مقتضى الفقه والقواعد. وعلى هذا التقدير فيتصور الحكم بالراجح وغير الراجح وليس اتباعا للهوى بل ذلك بعد بذل الجهد والعجز عن الترجيح وحصول التساوي، أما الفتيا والحكم بما هو مرجوح فخلاف الاجماع. وقال أيضا في أول هذا الكتاب: إن للحاكم أن يحكم بأحد القولين المتساويين من غير ترجيح ولا معرفة بأدلة القولين إجماعا، فتأمل هذا مع ما سبق من كلامه في قوله بعد بذل الجهد والعجز عن الترجيح. انتهى كلام ابن فرحون.
فتحصل منه أنه إذا تساوى القولان من كل وجه أو عجز عن الاطلاع على أوجه الترجيح، فله أن يحكم أو يفتي بأحد القولين. ومن ابن فرحون أيضا: واعلم أنه لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتي. والتساهل قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى أو الحكم قبل استيفاء حقه من النظر والفكر وربما يحمله على ذلك توهمه أن الاسراع براعة والابطاء عجز، ولان يبطئ ولا يخطئ أجمل به من أن يعجل فيضل ويضل. وقد يكون تساهله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحذورة أو المكروهة بالتمسك بالشبه طلبا للحرص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يروم ضرره. قال ابن الصلاح: ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه. قال: وأما إذا صح قصد المفتي واحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها ولا تجر إلى مفسدة ليخلص بها المفتي من ورطة يمين أو نحوها فذلك حسن جميل. وقال القرافي: إذا كان في المسألة قولان، أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تسهيل، فلا ينبغي للمفتي أن يفتي العامة بالتشديد، والخواص وولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين، وذلك دليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق، نعوذ بالله من صفات الغافلين والحاكم كالمفتي في هذا انتهى.
فروع: الأول: ما تقدم عن القرافي إنما هو إذا وجد في النازلة نصا، فأما إن لم يجد فنقل في التوضيح عند قول ابن الحاجب فيلزمه المصير إلى قول مقلده عن ابن العربي