مواهب الجليل - الحطاب الرعيني - ج ٣ - الصفحة ٥١٠
لا إشكال في تقديم حج الفريضة وجوبا على القول بالفورية وندبا على القول بالتراخي، سواء كان من القائمين بالجهاد أو من غيرهم. وعلى رواية ابن وهب وفتوى ابن رشد ينظر فإن قلنا على الفور قدمه سواء كان من القائمين بالجهاد أم لا، وإن قلنا بالتراخي قدم الجهاد ندبا إن كان من غير القائمين بالجهاد، ووجوبا إن كان منهم إلا من بلغ المعترك فيتعين عليه الحج. وإن كانت سنة خوف فصرح في الرواية بتقديم الجهاد على الحج لكن حمله ابن رشد على حج التطوع كما تقدم، ومفهومه أن الفرض بخلاف ذلك وكلامه في الأجوبة يقتضي أن ذلك يتخرج على الخلاف في فورية الحج وتراخيه أعني قوله وأما من لم يحج الفرض والسبيل مأمونة الخ.
لأن فرض المسألة مع وجود الخوف كما كان حال أهل الأندلس في زمانه فعلى اختياره أنه على التراخي وإن تطوع الجهاد يقدم عليه ولا شك في تقديم الجهاد، وعلى القول بالفور وإن تطوع الحج مقدم على تطوع الجهاد فالظاهر تقديم الحج. ويؤخذ من مفهوم كلام ابن رشد كما تقدم التنبيه عليه ويتردد النظر فيما إذا قلنا إنه على التراخي وقلنا إنه مقدم على تطوع الجهاد، والظاهر أنه ينظر إلى أخف الضررين فيرتكب والله أعلم. وقول القرافي في الفرق التاسع والمائة قال مالك:
الحج أفضل من الغزو لأن الغزو فرض كفاية والحج فرض عين قد يوهم أن مراد مالك بالحج المفضل حج الفريضة وليس كذلك كما تقدم في كلام ابن رشد والله علم.
وأما مسألة الصدقة فقد نص في الرواية على تقديم الحج عليها في غير سنة المجاعة، وحمله ابن رشد على حج التطوع فأحرى الفريضة. وتقدم في كلام صاحب المدخل أنه لا يجوز له أن يتصدق بما يحج به وهو ظاهر، وأما في سنة المجاعة فتقدم الصدقة على حج التطوع. ويفهم منه أنها لا تقدم على الحج الفرض وهو كذلك على القول بالفور، وعلى القول بالتراخي فتقدم عليه. وهذا ما لم تتعين المواساة بأن يجد محتاجا يجب عليه مواساته بالقدر الذي يصرفه في حجه فيقدم ذلك على الحج لوجوبه فورا من غير خلاف والحج مختلف فيه.
وقد روي أن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى دخل الكوفة وهو يريد الحج فإذا بامرأة جالسة على مزبلة تنتف بطة فوقع في نفسه أنها ميتة فوقف وقال: يا هذه أميتة أم مذبوحة؟ فقالت:
ميتة وأنا أريد أن آكلها وعيالي. فقال: إن الله قد حرم أكل الميتة وأنت في هذا البلد. فقالت:
يا هذا انصرف عني فلم يزل يراجعها الكلام حتى عرف منزلها ثم انصرف فجعل على بغل نفقة وكسوة وزادا وجاء فطرق الباب ففتحت فنزل عن البغل وضربه فدخل البيت ثم قال للمرأة: هذا البغل وما عليه من النفقة والكسوة والزاد لكم. ثم أقام حتى جاء الحج فجاءه قوم يهنئونه بالحج فقال: ما حججت السنة. فقال له بعضهم: سبحان الله ألم أودعك نفقتي ونحن ذاهبون إلى عرفات؟ وقال الآخر: ألم تسقني في موضع كذا وكذا؟ وقال الآخر: ألم تشتر لي كذا وكذا؟ فقال: ما أدري ما تقولون أما أنا فلم أحج العام. فلما كان من الليل أتى في منامه فقيل له: يا عبد الله بن المبارك قد قبل الله صدقتك وإنه بعث ملكا على صورتك فحج عنك.
(٥١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 505 506 507 508 509 510 511 512 513 514 515 ... » »»
الفهرست