شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ٩٥٥
أي، هذا الآخذ فيما أخذه من الله وقرره في شرع رسول الله بمنزلة ما قرره رسول الله من أحكام شريعة من تقدم عليه من الرسل.
(فاتبعناه من حيث تقريره، لا من حيث إنه شرع لغيره قبله.) أي، فاتبعنا ما قرر رسول الله، صلى الله عليه وآله، من شرع من تقدم عليه من حيث إنه، عليه السلام، قرره وجعله من شريعته وأخبر أن الحكم كذلك عند الله، لا من حيث إنه شريعة غيره. فإنا لسنا مأمورين بشريعة الغير.
(وكذلك أخذ الخليفة عن الله عين ما أخذه منه الرسول. فنقول فيه بلسان الكشف (خليفة الله)، وبلسان الظاهر (خليفة رسول الله). ولهذا مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما نص بخلافة عنه إلى أحد ولا عينه (8) لعلمه أن في أمته من يأخذ الخلافة عن ربه، فيكون خليفة عن الله مع الموافقة في الحكم المشروع.
فلما علم ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يحجر الأمر.) (9) أي، لما

(٨) - قوله: (وما نص بخلافته منه). الخلافة المعنوية، التي هي عبارة عن المكاشفة المعنوية للحقائق بالاطلاع على عالم الأسماء أو الأعيان، لا يجب النص عليها. وأما الخلافة الظاهرة التي هي من شؤون الإنباء والرسالة التي هي تحت الأسماء الكونية، فهي واجب إظهارها، ولهذا نص رسول الله، صلى الله عليه وآله، على الخلفاء الظاهرة. والخلافة الظاهرة، كالنبوة، تكون تحت الأسماء الكونية، فكما يكون النبوة من المناصب الإلهية التي من آثارها الأولوية على الأنفس والأموال، فكذا الخلافة الظاهرة. والمنصب الإلهي أمر خفى على الخلق، لا بد من إظهاره بالتنصيص. ولعمر الحبيب، يكون التنصيص على الخلافة من أعظم الفرائض على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. فإن تضييع هذا الأمر الخطير الذي بتضييعه يتشتت أمر الأمة ويختل أساس النبوة ويضمحل آثار الشريعة من أقبح القبائح التي لا يرضى أحد أن ينسبها إلى أوسط الناس، فضلا عن نبي مكرم ورسول معظم. نعوذ بالله من شرور أنفسنا قد تدبر. (الامام الخميني مد ظله) (٩) - أقول: هذا خلاف ما حققه (قده). وإن ما لا يجب تعيينه إنما يصح في الخلافة المعنوية، و أما الولي المتصرف في الباطن والظاهر فإن تعيينه والنص على وجوب متابعته إنما هو من أعظم الواجبات، وإن إهمال هذا الأمر إنما هو من أقبح القبائح. وإن العلم بوجود الولي المتصرف في الظاهر والباطن، أي الخلافة الظاهرية والمعنوية، إنما هو من شؤون الربوبية، وعلى النبي أن يعين الولي القائم مقامه بأمر الله. وقد حقق هذه المسألة أستاذ مشايخنا العظام، ميرزا محمد رضا قمشه‌اى (رض)، وقال في حواشي الفصوص:
(وقد كتبت في التعليقة ما يدفع به أمثال هذه الشبهات. وإن لم تنل أو أبيت عن قبول الحق للتأسي بأصحاب الضلال، فاحشر مع أحبتك الذين قد انحرفوا عن سبيل الحق.
ونقول في هذا المقام، في تعيين موضوع الخلافة الكبرى بعد رسول الله، صلى الله عليه و آله، ببراهين عقلية مستفادة من أذواق أرباب الكشف واليقين، وأصول عرفانية مأخوذة عن طريق الحق واليقين بتمهيد مقدمات عرشية وأصول مشرقية.
منها: أن معادن أخذ الرسالة والخلافة ومآخذ أحكامهما، حسب خزائن علمه تعالى من المرتبة الإلهية وأسمائه وصفاته تعالى وأحكامهما ولوازمهما، عالم الأعيان الثابتة والصور القدرية ومرتبة العلم الأعلى والقضاء الأول الإجمالي، أعني المرتبة الأحدية التي تنشأ منها المرتبة الواحدية ومقام ظهور الأسماء الإلهية، ثم مرتبة الأرواح والعقول الطولية، أعني عالم الجبروت ومرتبة اللوح المحفوظ والقضاء التفصيلي والقدر العلمي من النفوس البرزخية.
ومنها: أن لله تعالى أسماء مستأثرة يستأثرها لنفسه، لا يعلمها إلا هو: (ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء). وهي التي بها (يخشى الله من عباده العلماء) من الأنبياء والمرسلين والأولياء المقربين، لأنهم يعلمون تلك الأسماء ومقتضياتها، فلعل فيها ما يستعيذون عنه به تعالى: (إلهي أعوذ بك منك).
ومنها: أن رسول الكل، لا سيما إذا كان خاتم الرسل، يجب أن يكون قطب دائرة الإمكان، ولا يمكن أن يكون يتعدد، كما هو المقرر عند أهله. * 1 ومنها: أن الرسول، وإن كان رسول الكل أو الخاتم للرسل، لا يمكن أن يحكم بما يجده في معدن أخذه من أحكام الأسماء والأعيان الثابتة في علمه إلا بإذنه تعالى، لوجود الأسماء المستأثرة عنده، تبارك تعالى، وأحكامها، وعدم علمه بها. * 2 ومنها: أن الخليفة في حكم المستخلف عنه فيما استخلف فيه. وذلك ظاهر. * 3 إذا علمت ذلك، فاعلم أن الرسول كان رسولا لكافة الناس: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) وكان (رسول الله) و (خاتم النبيين) - بالكسر - وكان (رحمة للعالمين)، فكان رسولا للعالمين، فيجب أن يدعوهم إلى الله تعالى بإقامة الحجة، ويجب أن تكون شريعته دائمية إلى يوم القيامة: (وما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). ويجب إيصال العالمين إلى الكمالات اللائقة بهم، فيجب أن يدعوهم إلى الله بإقامة الحجة، ولما كان خاتم الأنبياء، يجب أن تكون شريعته دائمية، فيجب أن يكون مأخذ علمه ورسالته و معدن كشفه وخلافته الخزينة الأولى من خزائن علمه تعالى، ليطلع على أعيان جميع العالم و أحكامها وكمالاتهم اللائقة بهم، وطريق وصولهم إلى كمالاتهم وأسباب وصولهم إليها، ونظام العالم على وجه يؤدى إلى صلاحهم في الدنيا والآخرة، وليقدر على إقامة الحجة لهم في كل ما يطلبون عنه، فإن القدرة على الشئ فرع العلم به، فيكون قطبا للعالم، والقطب لا يكون إلا واحدا.
وأيضا، كانت شريعته دائمية، ويجب حفظه وإدامته بإقامة الحجة للناس إلى يوم القيامة، ووجب أن يكون له خليفة يقوم مقامه بعد إجابته داعي الحق، سبحانه وتعالى، في دعوة الخلق إلى الله بشريعته، ويقيم الحجة ويديم شريعته ويحفظها، فيجب أن يكون ذلك الخليفة أيضا معدن أخذ خلافته ومأخذ علمه معدن أخذ خلافة الرسول، ليقتدر على ما اقتدر عليه الرسول، فإنه قائم مقامه، فالخليفة في حكم المستخلف عنه، والقدرة فرع العلم. فذلك الخليفة أيضا قطب، والقطب لا يتعدد في زمان واحد. وليس السيف لغيره، لأنه بعد إقامة الحجة، والحجة ليست لغيره.
فلا ينقسم الخلافة إلى الخلافة الظاهرة وإلى الخلافة الباطنة، كما قال به بعض العرفاء، * 5 ولا يتعدد الخليفة بالأعلم والأعقل، كما قال به بعض الحكماء * 6، فإن الخليفة والقطب لا يتعدد. * 7 إذا تمهد هذا وعرفت ذلك، فنقول: تعيين ذلك الخليفة إما أن يكون من جانب الأمة، أو من قبل الرسول، أو من قبل الله تعالى. والأول باطل، لعدم علمهم بمقامه ومعدن أخذه.
والثاني أيضا باطل، لوجود الأسماء المستأثرة وعدم علم الرسول بها وأحكامها * 8. فتعين الثالث. وهو أن يكون تعيين الخليفة من قبل الله تعالى، فيجب على الله تعيينه ولا غير: (و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب). هو الرسول. فيجب على الله أن يوحى أمر الخلافة وتعيينه إلى رسوله، وعلى الرسول أن يبلغه: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك (2) من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). وقوله تعالى:
(والله يعصمك) يدل، دلالة واضحة، على أن في نفس الرسول كانت خيفة من بعض أصحابه المنافقين. * 9 ويظهر مما حققناه أنه يجب على الرسول تعيين موضوع الخلافة الكبرى والنص عليه بأمره تعالى وتعيينه. ولما لم ينص على خلافة أحد من الأصحاب وغيرهم غير على، عليه السلام، ولم يبق غيره، عليه السلام، فوجب أن يكون أمير المؤمنين منصوصا عليه بالخلافة عن النبي، صلى الله عليه وآله، بأمره تعالى. * 10 ثم، قد علمت أن الخليفة قطب الزمان، والقطب خير من جميع أهل زمانه، وليس في أهل زمانه خير منه * 11. ومن الأصول المسلمة أنه كما أنه ليس للرسول أن يحكم بحكم إلا
(٩٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 950 951 952 953 954 955 955 960 961 962 963 ... » »»