للهداية وبعضها غير قابلة لها، امتنع حصول الهداية للجميع. فمعنى قوله تعالى: (فلو شاء لهديكم أجمعين). أنه لم يشأ، لعلمه بامتناع حصول الهداية للجميع. فما تعلقت المشيئة إلا بما هو الأمر عليه، فعدم المشيئة معلل بعدم إعطاء أعيانهم هداية الجميع. وذلك لأن المشيئة والإرادة نسبتان تابعتان للعلم، إذ المشيئة تطلب المشاء، والإرادة المراد، وهما لا بد وأن يكونا معلومتين. والعلم في حضرة الأسماء والصفات من وجه تابع للمعلوم، من حيث كونه نسبة طالبة للمنتسبين، كما مر تحقيقه في المقدمات. وما يوجد الحق إلا بحسب استعداد القوابل لا غير. فلا يقع في الوجود إلا ما أعطته الأعيان، والعين ما تعطى إلا مقتضى ذاتها، ولا يقتضى الذات شيئا ونقيضه، وإن كان العقل يحكم على أن الممكن قابل للشئ ونقيضه لاتصافه بالإمكان المقتضى لتساوي الطرفين:
طرفي الوجود والعدم. لكن الواقف على سر القدر يعلم أن الواقع هو الذي يقتضيه ذات الشئ فقط. والأعيان ليست مجعولة بجعل جاعل، ليتوجه الإيراد بأن يقال: لم جعل عين المهتدى مقتضية للاهتداء وعين الضال مقتضية للضلالة؟ كما لا يتوجه أن يقال: لم جعل عين الكلب نجس العين وعين الإنسان إنسانا طاهرا؟
بل الأعيان صور الأسماء الإلهية ومظاهرها في العلم، بل عين الأسماء والصفات القائمة بالذات القديمة، بل هي عين الذات من حيث الحقيقة، فهي باقية أزلا وأبدا، ولا يتعلق الجعل والإيجاد عليها، كما لا يتطرق الفناء والعدم إليها. وهذا غاية المخلص من هذه المضائق. والله أعلم بالأسرار والحقائق.
وفي قوله: (ولكن عين الممكن)... إشارة إلى كون العقل محجوبا عاجزا عن إدراك حقيقة الشئ على ما هو عليه في نفسه. وليس حكمه بكون الممكن قابلا للشئ ونقيضه إلا كحكم الأعمى على من حضر عنده. وهو ساكت - هذا إما زيد أو ليس بزيد. فإنه وإن كان بحسب الإمكان صحيحا، لكنه في نفس الأمر أحدهما حق (14) وصاحب الشهود يعلم ما هو الحق.