شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ٥٤٥
(ولما خافت نفوس العمال منا، أتبع المعية بقوله: (ولن يتركم أعمالكم).
فالعمل يطلب المكان، والعلم يطلب المكانة، فجمع لنا بين الرفعتين: علو المكان بالعمل، وعلو المكانة بالعلم). أي، لما علم الزهاد والعباد الذين لا علم لهم بالحقائق ولا معرفة أن علو المكانة إنما هو بحسب العلم والكشف الحقيقي و خافت نفوسهم وحسبوا أن لا نصيب لهم من العلو، ذكر الحق في كلامه بعد قوله:
(والله معكم ولن يتركم). أي، لا ينقصكم الحق أعمالكم، فيكون لكم علو المكان بحسب أعمالكم. وإنما كان علو المكانة للعلم وعلو المكان للعمل، لأن المكانة للروح، كما أن المكان للجسم، والعلم روح العمل والعمل جسده.
فاقتضى كل منهما بحسب المناسبة ما يشبهه ويماثله: فعلو المكانة للعالم، وعلو المكان للعامل، ومن جمع بينهما فله العلوان.
(ثم قال تنزيها للاشتراك بالمعية: (سبح اسم ربك الأعلى). عن هذا الاشتراك المعنوي). ولما قال: (والله معكم). وأثبت له العلو أيضا، كما أثبته لنا، وهو له لذاته ولنا بالتبعية، فنزه عن هذا الاشتراك المعنوي بقوله: (سبح اسم ربك الأعلى) الذي له العلو الذاتي، وليس ذلك لأحد غيره.
(ومن أعجب الأمور كون الإنسان أعلى الموجودات، أعني الإنسان الكامل، وما نسب إليه العلو إلا بالتبعية، إما إلى المكان وإما إلى المكانة، وهي المنزلة) كون الإنسان أعلى الموجودات، إنما هو باعتبار مرتبته الجامعة للمراتب كلها. أي، و من أعجب الأمور أنه أعلى مرتبة من جميع الموجودات، وليس له العلو بذاته، بل باعتبار المكان الذي هو دونه، أو باعتبار المكانة وهي المرتبة.
(فما كان علوه لذاته، فهو العلى بعلو المكان والمكانة، فالعلو لهما). أي، فليس علو الإنسان الكامل من كونه أعلى الموجودات علوا ذاتيا، فهو على بعلو المكان والمكانة لا لذاته، فالعلو للمكان والمكانة لا له. وعلو هما أيضا إنما هو من تجليه لهما باسمه (العلى). فالعلو الذاتي لا يكون إلا لله.
ويجوز أن يكون (ما) بمعنى الذي، ويكون المراد تشبيه الحق بما نزهه عنه، وهو كونه عليا بعلو المكان والمكانة. ويعضده قوله: (فعلو المكان (كالرحمن على
(٥٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 539 541 542 543 544 545 546 547 548 549 550 ... » »»