و (التقديس) بحسب مقام الجمع والتفصيل ليكون أكثر كمية، ولهذا قيل: إن تنزيه نوح، عليه السلام، تنزيه عقلي وتنزيه إدريس، عليه السلام، تنزيه عقلي و نفسي. ولما كانت هذه الحكمة مناسبة للحكمة المتقدمة معنى ومرتبة، جعلها يليها وخصصها بإدريس، عليه السلام، لأجل تطهير نفسه، عليه السلام، بالرياضة الشاقة وتقديسه عن الصفات الحيوانية، حتى غلبت روحانيته على حيوانيته، فصار كثير الانسلاخ عن البدن، وصاحب المعراج، وخالط الأرواح والملائكة المجردة. وقيل: لم ينم ستة عشر عاما ولم يأكل حتى بقى عقلا مجردا.
(العلو نسبتان: علو مكان وعلو مكانة. فعلو المكان: (ورفعناه مكانا عليا)). لما جاء في بيان مرتبته: (ورفعناه مكانا عليا) وكان نتيجة التقديس العلو عن كل شئ وبه يتميز عن التسبيح، خص (رض) الفص بتحقيقه وشرع في بيان العلو، وقسمه بعلو المكان وعلو المكانة، أي، المرتبة. وبإزائه يكون السفل منقسما بالسفل المكاني كالمركز، والمكانة كمرتبة المشركين الذين هم أسفل السافلين. ولما كان العلو نسبة من النسب ومنقسما بقسمين، قال: (العلو نسبتان). كأنه قال: العلو علوان. أو يكون تقديره العلو له نسبتان: علو مكان و علو مكانة. (وأعلى الأمكنة المكان الذي يدور عليه رحى عالم الأفلاك وهو فلك الشمس، وفيه مقام روحانية إدريس، عليه السلام). واعلم، أن أعلى الأمكنة جهة هو العرش المحدد للجهات. وإنما جعل فلك الشمس أعلى الأمكنة باعتبار أنه قلب الأفلاك ووسطه وعليه مدار عالم الأفلاك، لا بمعنى أنه مركز عليه دوران الأفلاك، بل كما يقال على القلب مدار البدن، أي، منه يصل الفيض إلى جميع البدن. أي، فمن روحانيته يصل الفيض إلى الأفلاك جميعا، كما أن من كوكبه تتنور الأفلاك جميعا. وبه يرتبط الكواكب ارتباط الولاة بالسلطان. وإن كان لكل منها روحانية خاصة، يستفيض من الجناب الإلهي الفيض الخاص به، كما أن لكل نفس من النفوس فيضا خاصا من جهة عينه التي لا واسطة بينها وبين الحق، وفيضا عاما بواسطة العقل الأول والنفس الكلية وباقي روحانيات