مبتلى بمرض أورثه اختلالا في الإدراك، فليراجع الطبيب، وإما معاند للحق يظهر ما يظهر لدحضه، فليضرب وليؤلم، وليمنع مما يقصده ويريده، وليؤمر بما يبغضه ويكرهه، إذ لا يرى حقيقة لشئ من ذلك.
نعم، ربما راجع بعضهم هذه العلوم العقلية، وهو غير مسلح بالأصول المنطقية ولا متدرب في صناعة البرهان، فشاهد اختلاف الباحثين في المسائل بين الاثبات والنفي والحجج التي أقاموها على كل من طرفي النقيض، ولم يقدر لقلة بضاعته على تمييز الحق من الباطل، فتسلم طرفي النقيض في مسألة بعد مسألة، فأساء الظن بالمنطق، وزعم أن العلوم نسبية غير ثابتة، والحقيقة بالنسبة إلى كل باحث ما دلت عليه حجته.
وليعالج أمثال هؤلاء بايضاح القوانين المنطقية وإراءة قضايا بديهية لا تقبل الترديد في حال من الأحوال، كضرورة ثبوت الشئ لنفسه، واستحالة سلبه عن نفسه، وغير ذلك، وليبالغ في تفهيم معاني أجزاء القضايا، وليؤمروا أن يتعلموا العلوم الرياضية.
وهاهنا طائفتان أخريان من الشكاكين، فطائفة يتسلمون الانسان وإدراكاته، ويظهرون الشك في ما وراء ذلك، فيقولون: " نحن وإدراكاتنا، ونشك فيما وراء ذلك "، وطائفة أخرى تفطنوا بما في قولهم: " نحن وإدراكاتنا " من الاعتراف بحقائق كثيرة، من أناسي وإدراكات لهم، وتلك حقائق خارجية، فبدلوا الكلام بقولهم: " أنا وإدراكاتي، وما وراء ذلك مشكوك ".
ويدفعه: أن الانسان ربما يخطئ في إدراكاته، كما في موارد أخطاء الباصرة واللامسة وغيرها من أغلاط الفكر، ولولا أن هناك حقائق خارجة من الانسان وإدراكاته تنطبق عليها إدراكاته أو لا تنطبق، لم يستقم ذلك بالضرورة.
وربما قيل: إن قول هؤلاء ليس من السفسطة في شئ، بل المراد أن من المحتمل أن لا تنطبق الصور الظاهرة للحواس وبعينها على الأمور الخارجية، بما لها من الحقيقة، كما قيل: " إن الصوت بما له من الهوية الظاهرة على السمع ليس له