الانحرافات الكبرى - سعيد أيوب - الصفحة ١٧٠
إليها. ثم أخبرهم محذرا: احذروا أن يترتب على مخالفتكم ومعاداتكم لي عذاب مثل عذاب قوم نوح وهو الغرق، أو قوم هود وهو الريح العقيم، أو قوم صالح وهو الصيحة والرجفة (وما قوم لوط منكم ببعيد) أي لا فصل كثير بين زمانهم وزمانكم، وكانت الفاصلة الزمانية بين القومين أقل من ثلاثة قرون، وقد كان لوط معاصرا لإبراهيم عليهما السلام، وشعيب معاصرا لموسى عليهما السلام (19) وقيل المراد نفي البعد المكاني، والإشارة إلى بلادهم الخربة، قريبة منكم لقرب مدين من سدوم، بالمعنى: وما مكان قوم لوط منكم ببعيد، تشاهدون مدائنهم المخسوفة وآثارهم الباقية الظاهرة.
وبعد أن أخبرهم بما أخبرهم، وحذرهم بما حذرهم، أمرهم أن يستغفروا الله من ذنوبهم وأن يرجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله، إن الله ذو رحمة ومودة يرحم المستغفرين التائبين ويحبهم، فماذا كان ردهم على البينة التي تحتوي على صدق الرسالة وتشتمل على أصول المعارف؟ ماذا كان ردهم عندما طالبهم بأن يرجعوا بذاكرتهم إلى الماضي حيث الطوفان والريح والصيحة والحجارة؟ ماذا كان ردهم عندما طالبهم بالاستغفار والتوبة؟ لقد كان ردهم عجيبا: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) (20) يقول صاحب في ظلال القرآن: فهم ضيقوا الصدور بالحق الواضح لا يريدون أن يدركوه، وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة، فلا وزن عندهم للحقيقة، القوية التي يحملها شعيب ويواجههم بها، وفي حسابهم عصبية العشيرة، لا عصبية الإعتقاد، وصلة الدم لا صلة القلب، ثم هم يغفلون عن غيرة الله على أوليائه فلا يضعونها في الحساب..
وحين تفرغ النفوس من العقيدة القومية والقيم الرفيعة والمثل العالية، فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا، فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة، ولا تتحرج عن البطش بالداعية، إلا أن تكون له عصبة تؤويه، وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه، أما حرمة العقيدة والحق والدعوة، فلا وزن لها، ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية (21).

(١٩) الميزان: ٣٧٣ / ١٠.
(٢٠) سورة هود، الآية: ٩١.
(٢١) في ظلال القرآن: ١٩٢٢ / 4.
(١٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 165 166 167 168 169 170 171 172 173 174 175 ... » »»
الفهرست