(وقوله) إن قول أبي محمد المقدسي أن قوله: (لا تشد الرحال) محمول على نفي الاستحباب: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن هذا تسليم منه إن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات، فإذا من اعتقد في السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنها قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الاجماع، اعلم أن هذا الكلام في غاية الابهام والفساد، أما الايهام فلأن بعض من يراه يتوهم أنه استنتج مما سبق انعقاد الاجماع على أن ذلك ليس بقربة، ونحن قد قدمنا عن الليث بن سعد وبعض المالكية ما يقتضي أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة قربة فبطل دعوى الاجماع، ومقصود ابن تيمية إلزام أبي محمد المقدسي على قوله إن (لا تشد الرحال) محمول على نفي الاستحباب، وعلى تقدير إن هذا تسليم منه، إن هذا السفر ليس بعمل صالح، غاية ما يلزم من هذا إن هذا السفر ليس بقربة، وإن من اعتقد أنه قربة فقد خالف أبا محمد وأين ذلك من مخالفة الاجماع، وأما فساده فلأن أبا محمد إنما تكلم في جواز القصر ومقصوده إثبات الإباحة فإنها كافية فيه، فنفي توهم التحريم بحمل الحديث على نفي الفضيلة أي لا يستحب شد الرحال إلى مكان إلا إلى الثلاثة، ومع هذا لا بد فيه من تأويل لأن السفر مستحب لطلب العلم وغيره إلى غيرها، فالمقصود لا يستحب إليها من حيث هي وقد يكون هناك أمر آخر يقتضي الاستحباب أو الوجوب ولا مانع أن يكون قصد زيارة شخص مخصوص أو أشخاص مما يقتضي الاستحباب ولم يتعرض أبو محمد لذلك لأنه لم يتكلم فيه وإنما تكلم في جواز القصر فاقتصر على ما يكفي فيه وهو إثبات الإباحة.
(وقوله) وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين فصار التحريم من الأمر المقطوع به، هذا أيضا موهم وفاسد أما إيهامه فلأن كثيرا ممن يسمعه يظن أن هذا كلام مبتدأ ادعى فيه انعقاد الاجماع على التحريم وأن ذلك مقطوع به، وكأن ابن تيمية أراد ذلك وجعله معطوفا على إلزام الشيخ أبي محمد حتى إذا حوقق فيه يخلص من دركه بجعله معطوفا، وليس هذا دأب من يبغي الارشاد بل من يبغي الفساد، وأما فساده فلأنا لو سلمنا أن السفر ليس بطاعة بالإجماع فسافر شخص معتقدا أنه طاعة كيف يكون سفره محرما بإجماع المسلمين أو على قول عالم من علماء المسلمين