الأخير في حزن عميق، فقد كانت سندا وعونا في وجوه الطغاة الذين آذوه صلى الله عليه وسلم، واستهزأوا به وسخروا منه فكان كلما ضاق بهم عاد إلى منزله، يجد هذه السيدة العظيمة هاشة باشة تستقبله في فرح وتلقاه في سرور وتحتضنه في حنان بالغ فتسري عنه، وتملؤه بالأمل وتشحذ من همته فيعود إلى جهاده من جديد وكلماتها الحلوة وعباراتها العذبة تتردد أصداؤها في أذنيه تشجعه وتسليه وتعزيه وتقوي من عزمه وتصبره على المكاره وتعينه على الثبات على الحق فكيف لا يكون الفراق صعبا وهو يودعها اليوم إلى مثواها الأخير.
وبكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما لم يبك أحدا أبدا، فهي الزوجة، وهي الحبيبة، وهي الصديقة، وهي الأم، وكان عاما حزينا سمي عام الحزن (1)، كانت له عونا وسندا، فقد صدقته يوم كذبه الناس، وأيدته يوم حاربه الناس وأعطته يوم حرمه الناس، وزملته ودثرته وعضدته رضي الله عنها، وظل وفيا لها، حتى أثار حبه صلى الله عليه وسلم غيرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد موتها رضي الله عنها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:
" ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط، ولكن كان يكثر من ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، وربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: " إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد " وفي رواية لمسلم: " وكان إذا ذبح الشاة يقول: " أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة " قالت فأغضبته يوما فقلت: " خديجة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني قد رزقت حبها " (2).