شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ٢ - الصفحة ٢٥٤
والاستدلال غير العلم والاعتقاد وكلام كثير من ذوي التحصيل القائلين بالتصديق يدل على أنهم لا يعنون بالمعرفة التي لا تكفي في الإيمان معرفة حقية جميع ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام قال أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة لا يلزم من انعدام العلم انعدام التصديق فإنا آمنا بالملائكة والكتب والرسل ولا نعرفهم بأعيانهم والمعاندون يعرفون ولا يصدقون كما قال الله تعالى * (الذين آتيناهم الكتاب) * فدل على انفكاك التصديق عن العلم والعلم عن التصديق ولهذا لم يجعل الإيمان معرفة على ما ذهب إليه جهم بن صفوان الخامس أن ما ذكر من اعتبار الاختيار في نفس التصديق اللغوي وكون الحاصل بلا كسب واختيار ليس بإيمان يدل على أن تصديق الملائكة بما ألقي عليهم والأنبياء بما أوحي إليهم والمصدقين بما سمعوا من النبي عليه السلام كله مكتسب بالاختيار وأن من حصل له هذا المعنى بلا كسب كمن شاهد المعجزة فوقع في قلبه صدق النبي عليه السلام فهو مكلف بتحصيل ذلك اختيارا بل صرح هذا القائل بأن العلم بالنبوة الحاصل من المعجزات حدسي ربما يقع في القلب من غير اختيار ولا ينضم إليه التصديق الاختياري المأمور به وكل هذا موضع تأمل فإن قيل لا شك أن المقصود بالتصديق والتسليم واحد والتصريح بذلك من أكابر الصحابة وعلماء الأمة وارد وفي قوله تعالى * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) * عليه شاهد وإن أمكنت مناقشته وبقوله تعالى * (وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) * مجادلة ففي اتحاد المفهوم لا غير فما بال أقوام شددوا النكير أو أكثروا المدافعة على من قال بذلك من المتأخرين ونسبوه إلى اختراع مذهب في الإسلام وزيادة ركن في الإيمان قلنا لأنه كان يزعم أولا أن التسليم أمر زائد على التصديق الذي اعتبره العلماء لم ينكشف على من قبله من الأذكياء واعترف بأنه إنما اطلع عليه بعد حين من الدهر وصدر من العمر مع أن السلف قد صرحوا بأن المراد به ما يعبر عنه في الفارسية بكرويدن وباور داشتن وبذيرفتن وراست كوى داشتن وأنه لا يكفي مجرد المعرفة لحصولها لبعض الكفار على ما تلونا من الآيات فكاد يفضي ذلك إلى نسبة نفسه مدة من الزمان وكثير من السلف إلى الجهل بحقيقة الإيمان وإلى الإصرار على أنه لا بد من أمر وراء التصديق والإقرار ولأنه اتخذ لفظ التصديق مهجورا مع كونه في ما بين الأنام مشهورا وعلى وجه الأيام مذكورا وبنى الأمر كله على لفظ التسليم بحيث اعتقد كثير من العوام بل الخواص أنهما معنيان مختلفان قد يجتمعان وقد يفترقان لاحظ لأهل التصديق دون التسليم من الإيمان وربما يرى الواحد من غلاة الفريقين وجهلة القبيلين يشمئز من أحد اللفظين ولا يكتفي بأن يكون التصديق والتسليم مذهبين ولأنه اعتبر في التسليم تحقيقات وتدقيقات لم تخطر ببال الكثير من المسلمين بل لا يفهمهما إلا الأذكياء من أئمة الدين فاتخذها جهلة العوام ذريعة إلى تكفير الناس وتجهيل الخواص
(٢٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 249 250 251 252 253 254 255 256 257 258 259 ... » »»