البلغاء لا ينحط عن جزالة القرآن انحطاطا بينا قاطعا للأوهام وربما يقدر نظم ركيك يضاهي نظم القرآن على ما روي من ترهات مسيلمة الكذاب الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل وخرطوم طويل فلزم كون الإعجاز بالنظم البديع مع الجزالة أعني البلاغة وهو التعبير عن معنى سديد بلفظ شريف وأن ينبئ عن المقصود من غير مزيد ثم قال وفي القرآن سوى النظم والبلاغة وجهان آخران من الإعجاز هما الإخبار عن قصص الأولين من غير سماع وتلقين والإخبار عن المغيبات المستقبلة متكررة متوالية قلنا معنى الأول أن نظم القرآن وتركيبه يخالف المعتاد من أساليب كلام العرب إذ لم يعهد فيه كون المقاطع على مثل يعلمون ويفعلون والمطالع على مثل * (يا أيها الناس) * و * (يا أيها المزمل) * و * (الحاقة ما الحاقة) * و * (عم يتساءلون) * وأمثال ذلك ومعنى الثاني أن نظمه بالغ في الفصاحة والمطابقة لمقتضى الحال الجد الخارج عن طوق البشر وكان معنى النظم على الأول ترتب الكلمات وضم بعضها إلى البعض وعلى الثاني جمعها مترتبة المعاني متناسقة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل على ما قال عبد القاهر أن النظم هو توخي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام ولهذا زيادة بيان في بعض كتبنا في فن البيان وقد استدل على بطلان الصرفة بوجوه الأول أن فصحاء العرب إنما كانوا يتعجبون من حسن نظمه وبلاغته وسلاسته في جزالته ويرقصون رؤسهم عند سماع قوله تعالى * (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) * الآية لذلك لا لعدم تأتي المعارضة مع سهولتها في نفسها الثاني أنه لو قصد الإعجاز بالصرفة لكان الأنسب ترك الاعتناء ببلاغته وعلو طبقته لأنه كلما كان أنزل في البلاغة وأدخل في الركاكة كان عدم تيسر المعارضة أبلغ في خرق العادة الثالث قوله تعالى * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * فإن ذكر الاجتماع والاستظهار بالغير في مقام التحدي إنما يحسن فيما لا يكون مقدورا للبعض ويتوهم كونه مقدورا للكل فيقصد نفي ذلك فإن قيل لو كان القصد إلى لإعجاز بالبلاغة لكان ينبغي أن يؤتى بالكل في أعلى الطبقات لكونه أبلغ في خرق العادة والمذهب أن الله تعالى قادر على أن يأتي بما هو أفصح مما أتى به وأبلغ وأن بعض الآيات في باب البلاغة أعلى وأرفع كقوله تعالى * (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) * الآية بالنسبة إلى سورة الكافرين مثلا قلنا هذا أوفى بالغرض وأوضح في المقصود بمنزلة صانع يبرز من مصنوعاته ما ليس غاية مقدوره ونهاية ميسوره ثم يدعو جماهير الحذاق في الصناعة إلى أن يأتوا بما يوازي أو يداني دون ما ألقاه وأهون ما أبداه وأما المقام الثالث فإشراف العرب مع كمال حذاقتهم في أسرار الكلام وفرط عداوتهم للإسلام لم يجدوا فيه للطعن مجالا ولم يوردوا في القدح مقالا ونسبوه إلى السحر على ما هو دأب المحجوج المبهوت تعجبا من فصاحته وحسن نظمه وبلاغته واعترفوا بأنه ليس من جنس خطب الخطباء أو شعر
(١٨٥)