شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ٢ - الصفحة ١٧٤
المنازل والمدن ومنها الإخبار بتفاصيل ثواب المطيع وعقاب العاصي ترغيبا في الحسنات وتحذيرا عن السيئات إلى غير ذلك من الفوائد فلهذا قالت المعتزلة بوجوبها على الله تعالى والفلاسفة بلزومها في حفظ نظام العالم على ما سيجيء والحاصل أن النظام المؤدي إلى صلاح حال النوع على العموم في المعاش والمعاد لا يتكمل إلا ببعثة الأنبياء فيجب على الله عند المعتزلة لكونه لطفا وصلاحا للعباد وعند الفلاسفة لكونه سببا للخير العام المستحيل تركه في الحكمة والعناية الإلهية وإلى هذا ذهب جمع من المتكلمين بما وراء النهر وقالوا أنها من مقتضيات حكمة الباري عز وجل فيستحيل أن لا يوجد لاستحالة السفه عليه كما أن ما علم الله وقوعه يجب أن يقع لاستحالة الجهل عليه ثم طولوا في ذلك وعولوا على ضروب من الاستدلال مرجعها إلى ما ذكرنا من لزوم السفه والعبث كما في خلق الأغذية والأدوية التي لا تتميز عن السموم المهلكة إلا بتجارب لا يتجاسر عليها العقلاء ولا يفي بها الأعمار وخلق الأبدان التي ليس لها بدون الغذاء إلا الفناء وخلق نوع الإنسان المفتقر في البقاء إلى اجتماع لا ينتظم بدون بعثة الأنبياء وكخلق العقل المائل إلى المحاسن النافر عن القبايح الجازم بأن شرفه وكماله في العلم بتفاصيل ذلك والعمل بمقتضياتها من الامتنثال والاجتناب وأنه لا يستقل بجميع ذلك على التفصيل بل يفتقر إلى بيان ممن أوجدها ودعا إلى الإتيان بالبعض منها والانتهاء عن البعض كالمجمل من الخطاب فإن خلق العقل مائلا إلى المحاسن نافرا عن القبايح بمنزلة الخطاب في كونه دليلا على الأمر والنهي اللذين هما من الصفات القائمة بذاته تعالى إذ لا معنى لهما سوى الدعوة إلى المباشرة والامتناع وكما في جعل بعض الأفعال بحيث قد يحمد عاقبته فيجب وقد يذم فيحرم كالصوم مثلا فلو لم يكن له بيان من الشارع لكان في ذلك إباحة ترك الواجب وإباحة مباشرة المحظور وهو خارج عن الحكمة فظهر بهذه الوجوه وأمثالها أنه لا بد من النبي البتة ولهذا كان في كل عصر للعقلاء نبي أو من يخلفه في إقامة الدليل السمعي وكان الغالب على المتمسكين بالشرايع سلوك طريق الحق وسبيل النجاة والرشاد مع اشتغالهم باكتساب أسباب المعاش وخلو أكثرهم عن صناعة النظر وحذاقة الذهن وعلى الفلاسفة المتشبثين بأذيال العقل العدول عن الصواب والوقوع في الضلال مع رجاحة عقولهم ودقة أنظارهم وإقبالهم بالكلية على البحث عن المعارف الإلهية والعلوم اليقينية وأنت خبير بأن في ترويج أمثال هذا المقال توسيع لمجال الاعتزال فإنهم لا يعنون بالوجوب على الله تعالى سوى أن تركه لقبحه محل بالحكمة ومظنة لاستحقاق المذمة فالحق أن البعثة لطف من الله تعالى ورحمة يحسن فعلها ولا يقبح تركها على ما هو المذهب في سائر الألطاف ولا تبتني على استحقاق من المبعوث واجتماع أسباب وشروط فيه بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده وهو أعلم حيث يجعل رسالته قال وللمنكرين المنكرون للنبوة منهم من قال باستحالتها ولا اعتداد بهم ومنهم من قال بعدم الاحتياج
(١٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 169 170 171 172 173 174 175 176 177 178 179 ... » »»