شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ٢ - الصفحة ١٨٠
ابتداء محمول على ما يصلح دليلا للنبوة على الإطلاق وحجة على المنكرين بالنسبة إلى كل نبي حتى الذي لا نبي قبله ولا كتاب وأما ما سيأتي من الاستدلال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما شاع من أخلاقه وأحواله فعائد إلى المعجزة على ما تبين إن شاء الله تعالى قال المبحث الثالث في طريقة الفلاسفة هم يقرون بالاحتياج إلى النبي والشريعة وبثبوت المعجزة لكن يقررون ذلك على وجه لا يوافق ما علم بالضرورة من الدين أما تقريرهم في الاحتياج إلى النبي فهو أن الإنسان مدني بالطبع أي محتاج في تعيشه إلى التمدن وهو اجتماعه مع بني نوعه للتعاون والتشارك في تحصيل ما يحتاجون إليه من الغذاء الموافق واللباس الواقي من الحر والبرد والمسكن الملائم بحسب الفصول المختلفة والسلاح الحامي عن السباع والأعداء فإن كل ذلك مما يحصل بالصناعات ولا يمكن للإنسان الواحد القيام بجميعها بل لا بد من أن يخبز هذا لذلك وذلك يخيط آخر وآخر يتخذ الإبرة له إلى غير ذلك من المصالح التي لا بقاء للنوع بدونها ثم ذلك التعاون والتشارك لا يتم إلا بمعاملات فيما بينهم وبمعاوضات ولا ينتظم إلا بقانون متفق عليه مبني على العدل والإنصاف ضابط لما لا حصر له من الجزئيات لئلا يقع الجور فيختل أمر النظام لما جبل عليه كل أحد من أنه يشتهي ما يحتاج إليه ويغضب على من يزاحمه وذلك القانون هو الشرع ولا بد له من شارع يقرره على ما ينبغي متميزا عن الآخرين بخصوصية فيه من قبل خالق الكل واستحقاق طاعة وانقياد وإلا لما قبلوه ولم ينقادوا له وأن يكون إنسانا يخاطبهم ويلزمهم المعاملة على وفق ذلك القانون ويراجعونه في مواضع الاحتياج ومظان الاشتباه فتلك الخصوصية هي البعثة والنبوة وذلك الإنسان الشارع لقوانين المعاملات فيما بينهم والسياسات في حق من يخرج من مصالح البقاء هو النبي فلا بد من أمر مختص يدل على أن شريعته من عند ربه ويقتضي لمن وقف عليه أن يقر بنبوته وينقاد له وهو المعجزة قالوا وهذا الإنسان هو الذي يجتمع فيه خواص ثلاث هي الاطلاع على المغيبات وظهور خوارق العادات ومشاهدة الملك مع سماع كلامه ومعنى ذلك على ما شرحه في الشفاء وغيره أنه يكون كاملا في قوته النفسانية أعني الإنسانية والحيوانية المدركة والمحركة بمعنى أن نفسه القدسية بصفاء جوهرها وشدة اتصالها بالمبادىء العالية المنتقشة بصور الكائنات ماضيها وحاضرها وآتيها وقلة التفاتها إلى الأمور الجاذبة إلى الخسة السافلة تكون بحيث يحصل لها جميع ما يمكن للنوع دفعة أو قريبا من دفعة إذ لا يحل هناك ولا
(١٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 175 176 177 178 179 180 181 182 183 184 185 ... » »»