شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ٢ - الصفحة ١٨٢
جناب القدس بالكلية واستتباعها القوى الجسمانية التي بها الهضم والشهوة والتغذية وما يتعلق بذلك بل لا يبعد أن يكون هذا في حق هؤلاء أولى وأقرب منه في المرض لكون احتياج المريض إلى الغذاء أوفر وأوفى أما أولا فلتحلل رطوباته بسبب الحرارة الغريزية المسماة بسوء المزاج وأما ثانيا فلفرط احتياجه إلى حفظ القوى البدنية بحفظ الرطوبات التي بها تعتدل الحرارة الغريزية وذلك لما عرض لها بسبب المرض المضاد لها من الفتور وأما ثالثا فلاختصاص العارف بأمر يقتضي الاستغناء عن الغذاء والسكون البدني الحاصل بسبب ترك القوى البدنية أفاعيلها عند متابعتها النفس وأما تقريرهم لنزول الوحي وظهور الملك مع أنه من المجردات دون الأجسام فهو أن النائم ومن يجري مجراه في عدم استيلاء الحواس عليه قد يشاهد صورا غريبة ويسمع أصواتا عجيبة ليست بمعدومة صرفة ولا موجودة في الخارج بل في القوة المتخيلة والحس المشترك وربما لا يكون متأدية إليه من طرق الحواس الظاهرة بل من عالم آخر فلا يبعد أن يكون لبعض أفراد الإنسان نفس شريفة شديدة الاتصال بعالم العقل قليلة الالتفات إلى عالم الحس ومتخيلة شديدة جدا قوية التلقي من عالم الغيب قليلة الانغماس في جانب الظاهر لا يعصيها المصورة ولا يشغلها المحسوسات عن أفعالها الخاصة ويحصل لذلك الإنسان في اليقظة أن يتصل بعالم الغيب ويتمثل لقوته المتخيلة العقول المجردة والنفوس السماوية أشباحا مصورة سيما العقل الفعال الذي له زيادة اختصاص بعالم العناصر فتخاطبه وتحدث في سمعه كلام مسموعا يحفظ ويتلى ويكون ذلك من قبل الله وملائكته لا من الإنسان وهذا معنى الوحي ونزول الملك والكتاب وقد يكون ذلك على غاية الكمال فيعبر عنها بمشاهدة وجه الله الكريم وسماع كلامه من غير واسطة وأما تقريرهم في كون النبي مبعوثا من قبل الباري تعالى لحفظ النظام وصلاح العباد في المعاش والمعاد مع أنهم لا يثبتون له الفعل بالاختيار والعلم بالجزئيات ويقطعون بأنه تعالى بل جميع المبادي العالية لا يفعل لغرض في الأمور السافلة فهو أن العناية الإلهية بمخلوقاته أعني إحاطة علمه السابق بنظام الموجودات على الوجه الأليق في الأوقات المترتبة التي يقع كل موجود منها في واحد من تلك الأوقات يقتضي إفاضة ذلك النظام على ذلك الترتيب والتفصيل الذي من جملته وجود الشرع والشارع ووجوب ما به يكون النظام على وجه الصواب فيجب ذلك عنه وعن إحاطته بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل ليكون الموجود على وفق المعلوم وعلى أحسن النظام وإن لم يكن هناك انبعاث قصد وطلب منه تعالى وهذا ما قال في الشفاء أن العناية الإلهية تقتضي المصالح التي لها منفعة ما في البقاء كإنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين وتقعير الأخمص من القدمين فكيف لا تقتضي المنفعة التي هي في محل الضرورة للبقاء ولتمهيد نظام الخير وأساس المنافع كلها وكيف
(١٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 177 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 ... » »»