شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ٢ - الصفحة ١٨٤
وإحاطتهم بأساليب الكلام وهذا مع اشتماله على الإخبار عن المغيبات الماضية والآتية كما سنذكره وعلى دقايق العلوم الإلهية وأحوال المبدأ والمعاد ومكارم الأخلاق والإرشاد إلى فنون الحكمة العلمية والعملية والمصالح الدينية والدنيوية على ما يظهر للمتدبرين ويتجلى على المتفكرين وذهب النظام وكثير من المعتزلة والمرتضى من الشيعة إلى أن إعجازه بالصرفة وهي أن الله تعالى صرف همم المتحدين عن معارضته مع قدرتهم عليها وذلك إما بسلب قدرتهم أو بسلب دواعيهم أو بسلب العلوم التي لا بد منها في الإتيان بمثل القرآن بمعنى أنها لم تكن حاصلة لهم أو بمعنى أنها كانت حاصلة فأزالها الله وهذا هو المختار عند المرتضى وتحقيقه أنه كان عندهم العلم بنظم القرآن والعلم بأنه كيف يؤلف كلام يساويه أو يدانيه والمعتاد أن من كان عنده هذان العلمان يتمكن من الإتيان بالمثل إلا أنهم كلما حاولوا ذلك أزال الله تعالى عن قلوبهم تلك العلوم وفيه نظر واحتجوا أولا بأنا نقطع بأن فصحاء العرب كانوا قادرين على التكلم بمثل مفردات السورة ومركباتها القصيرة مثل الحمد لله ومثل رب العالمين وهكذا إلى الآخر فيكونون قادرين على الإتيان بمثل السورة وثانيا بأن الصحابة عند جمع القرآن كانوا يتوقفون في بعض السور والآيات إلى شهادة الثقاة وابن مسعود رضي الله تعالى عنه قد بقي مترددا في الفاتحة والمعوذتين ولو كان نظم القرآن معجزا بفصاحته لكان كافيا في الشهادة والجواب عن الأول بأن حكم الجملة قد يخالف حكم الأجزاء وهذه بعينها شبهة من نفي قطعية الإجماع والخبر المتواتر ولو صح ما ذكر لكان كل من آحاد العرب قادرا على الإتيان بمثل قصايد فصحائهم كامرئ القيس وأضرابه واللازم قطعي البطلان وعن الثاني بعد صحة الرواية وكون الجمع بعد النبي صلى الله عليه وسلم لا في زمانه وكون كل سورة مستقلة بالإعجاز أن ذلك كان للاحتياط والاحتراز عن أدنى تغيير لا يخل بالإعجاز وأن إعجاز كل سورة ليس مما يظهر لكل أحد بحيث لا يبقى له تردد أصلا وقيل إعجازه بنظمه الغريب المخالف لما عليه كلام العرب في الخطب والرسائل والأشعار وقيل بسلامته عن الاختلاف والتناقض وقيل باشتماله على دقائق العلوم وحقايق الحكم والمصالح وقيل بإخباره عن المغيبات ورد بأن حماقات مسيلمة ومن يجري مجراه أيضا على ذلك النظم وبأنه كثيرا ما يسلم كلام البلغاء عن الاختلاف والتناقض ويشتمل كلام الحكماء على العلوم والحقايق والأخبار عن المغيبات التي لا توجد إلا في قليل من الكتاب فإن قيل لا يظهر فرق بين كون الإعجاز بنظمه الخاص وكونه ببلاغة النظم ليجعلا مذهبين متقابلين ويجعل كون الإعجاز بالأمرين جميعا مذهبا ثالثا ينسب إلى القاضي على ما قال إمام الحرمين أن وجه الإعجاز عندنا هو اجتماع الجزالة مع الأسلوب والنظم المخالف لأساليب كلام العرب من غير استقلال لأحدهما إذ ربما يدعي أن بعض الخطب والأشعار من كلام أعاظم
(١٨٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 179 180 181 182 183 184 185 186 187 188 189 ... » »»