وللتاريخ أثر من نافذة يطل منها هؤلاء، ويخاطبوننا وجها لوجه، ويظهرون بشخصيتهم ومكانتهم، وإن أسدلت من دونهم الحجب والأستار وضرب من حولهم الحصار.
إنهم يطلون من كوى التاريخ على حقيقتهم كالشهب المشعة في ديجور الظلام، يفاجئون الباحثين كالبرق الخاطف، ثم يختفون وراء سدفة حالكة من التاريخ في صمت وخفوت طويلين.
ومن هذه الكوى الكثيرة نقزأهم ونلمح تاريخهم العام، وعلى ضوء هذه الإطلالات الخاطفة ندرس جوانب حياتهم وظروفهم.
وربما كان من أبرز هؤلاء هشام بن الحكم الكندي، الذي حرمه المؤرخون حتى من الترجمة التقليدية، والذي يقتحم على التاريخ نافذته الموصدة عملاقا فكريا وماردا علميا، تتساقط أمامه الأقفال، وتنحسر عنده الأستار في حقيقته المشرفة السافرة.
- 2 - وحديثنا عن هشام يتصل مباشرة بالحديث عن الحركة الكلامية الفلسفية في الإسلام في عهودها الأولى، يوم كان التفكير الاسلامي محتفظا بشخصيته المستقلة، لم تطغ عليها بعد موجات الفكر الأجنبي من اليونان والفرس والسمنية الهنود وسواهم، وحين كان المتكلمون يغلب على تفكيرهم العنصر الاسلامي على ما سواه من عناصر محتفظين باستقلال شخصية تفكيرهم أكثر ممن جاء بعدهم من الفلاسفة والمتكلمين.