شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٢٥ - الصفحة ٣٦٠
بها في ذي الحجة من السنة المذكورة.
ولقد كانت سيدة النساء وقتئذ في أزهى أوقات الحياة في التاسعة عشر من عمرها، أما الإمام علي فقد كان يبلغ الحادية والعشرين، كلاهما شخصيتان بارزتان يحيط بهما جلال الإيمان ونور الهدى، متكافئان متعادلان من كل الوجوه، مناسب أحدهما للآخر كل المناسبة، كلاهما عالي الفكر، رقيق الحس، حميد الخلق، صبيح الوجه، فكلاهما زوجان متصفان بالمعالي، مشهوران بالمحامد، فهما خيار من خيار.
بدأت حياتهما المشتركة التي امتزجت فيها الفضيلة بالكمال، والجلال بالجمال على هذا الوجه من الصفاء والوفاء والاخلاص.
حضر الإمام علي ذات يوم من أيام السنة الثانية للهجرة إلى دار النبوة بنفسه وبعد أن دخل الدار سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وسكت، فسأله الرسول ماذا يطلب؟ فرد عليه مجيبا بأنه حضر ليطلب كريمته السيدة فاطمة. فقال له الرسول: مرحبا وأهلا، ولم يزد على ذلك، بل ظل ساكتا بعدها، مما اضطر عليا إلى العودة حائرا مدهوشا.
لم يستطع الإمام علي أن يميز وجه الحقيقة من رد الرسول، فسأل بعضا من الأنصار، فبشروه وطيبوا خاطره، وأفهموه بأن في هذا الرد ما يشعر بالقبول والايجاب، ففرح الإمام واغتبط بذلك، وبعد قيام الإمام علي طلب الرسول صلوات الله عليه كريمته السيدة فاطمة وأخبرها بهذا الأمر، وسألها رأيها فيه، فلم تجبه، بل اطرقت ساكتة، فعد الرسول سكوتها علامة الايجاب والرضى.
فقرر إتمام عقد الزواج، ثم أرسل يطلب عليا كرم الله وجهه وسأله هل عنده من شئ؟ فأجابه: إنه لا يملك سوى فرسه ودرعه، فأمره ببيع الدرع لتجهيز السيد فاطمة بثمنها.
هرع علي إلى السوق فباع الدرع إلى عثمان بن عفان بأربعمائة وسبعين درهما، وعاد بالثمن معقودا في طرف ثوبه ووضعه أمام الرسول وهو يقول: هاهو بدل الدرع يا رسول الله.
فقبض الرسول بعض الدراهم منها، وناولها بلالا ليشتري بعض الطيب والروائح ويسلم الباقي إلى (أم سلمة) لتشتري الجهاز.
وبعد أن أحضرت أم سلمة الجهاز دعا الرسول صلى الله عليه وسلم جمعا غفيرا من الأنصار ثم خطبهم خطبة بليغة وهي:
(الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع سلطانه، المهروب إليه من عذابه، النافذ أمره في أرضه وسمائه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، إن الله عز وجل جعل المصاهرة نسبا لاحقا، وأمرا مفترضا، وحكما عادلا، وخيرا جامعا، وشج به الأرحام، وألزمها الأنام، فقال عز وجل: (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا) وأمر الله تعالى يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء، وثبت وعنده أم الكتاب، ثم أن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي وأشهدكم أني زوجت فاطمة من علي على أربعمائة مثقال فضة إن رضي بذلك على السنة القائمة، والفريضة الواجبة).
ثم دعا لهما عقب ذلك بحسن المعاشرة، وبالذرية الصالحة، وعندما تم عقد الزواج على هذا الوجه البسيط أحضر الرسول للحاضرين من الأنصار وعاء فيه بعض التمر وقدمه إليهم بقوله: تخاطفوا.
هكذا تم زفاف سيدة النساء، وابنة فخر الكائنات بلا ضجيج ولا ضوضاء ولكنه بالسرور الذي ملأ القلوب بالهناء والصفاء.
وبعد أن تفرق المدعون طلب رسول الله صلى الله عليه وسلمأم سلمة وأمرها بأن تذهب بكريمته إلى دار علي، وأن تخبرهما أنه آت إليهما عن قريب. فنفذت أمره وسارت بسيدة النساء إلى دار زوجها. أما الرسول فقد صلى صلاة العشاء.
ويمم عقب الصلاة دار علي وفي يده قربة من الجلد تستعمل لسقي الماء، وعند وصوله دار صهره قرأ عليها سورتي المعوذتين، وبعضا من الأدعية، وأمرهما بأن يشربا ويتوضأ من الإناء، ثم أخذ قليلا منه ونثره على رأسيهما، وعندما أراد مفارقتهما وقد هم بالانصراف كانت فاطمة رضي الله عنها تبكي فخاطبها بما معنا:
(أي بنتي قد تركتك وديعة عند رجل إيمانه أقوى من إيمان أي إنسان آخر، وعلمه أكثر من علم الجميع، إنه أفضل قومنا أخلاقا، وأعلاهم نفسا).
على هذا الوجه تم عقد الشركة القلبية بين سيدة النساء فاطمة الزهراء والإمام علي كرم الله وجهه.
أحب الإمام علي زوجته سيدة النساء، وعاشا عيشة راضية، ورزقت منه خمسة أولاد، ثلاثة ذكور: وهم حسن وحسين ومحسن، وبنتان: أم كلثوم وزينب، وقد مات محسن صغيرا.
كانت السيدة فاطمة رضي الله عنها ذات عقل ودراية، عالية النفس، تجيد الشعر، وتعرف مسائل الفقه والشريعة، ولها إلمام بالتاريخ، ولم يأخذها الغرور يوما لعلو منزلتها في الاسلام.
وكان سلسة القياد، حلوة اللسان، تحب معونة الفقراء كزوجها علي.
روي عنها أحاديث نبوية كثيرة، ونظمت قصائد ذات أبيات عامرة، وأظهرت دراية ومهارة في كثير من المعضلات.
كانت السيد فاطمة تشابه أباها في كلامها، وتحاكيه صلى الله عليه وسلم في مشيها، ومحاكاة تثير دهشة الناس.
أما محبتها لوالدها فخر الكائنات، فكانت محبة خارقة للعادة من أعماق القلب والروح.
وكانت محبوبة من أهلها يحبها الجميع، وقد تركت ذكريات حسنة في قلب كل إنسان عرفها أثناء العشر السنوات التي مضت من يوم زواجها حتى ساعة وفاتها.
وكان الإمام علي ينفذ لها كل طلب ويعمل بكل كلمة تقولها.
وكان أولادها يطيعونها ويحترمونها في كل حين.
وكانت تحب أولادها وتعتني بشأنهم، وكانت في صلاتها وعبادتها ومبراتها وخيراتها من أكثر السيدات أنسا في محفل ربات الخدور.
وقد قضت حياتها السعيدة حتى السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية المباركة وهي تجبر القلوب الكسيرة، وتعين المحتاجين، وتغيث الملهوفين، وقد ظلت هذه الحياة السعيدة على هذه الوتيرة حتى السنة المذكورة التي انتقل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه، إلى الرفيق الأعلى، فتناثرت أوراق تلك السعادة، وأظلم قلبها، وهكذا الدهر إذا صفا يوما ففي غدا يتقلب.