قال: قتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).
فقال: ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدم بنيك وأخر بنيه!
قال: بل ما أنصفت أنا عليا إذ قتل وبقيت!
قال: صف لي عليا. فقال: إن رأيت أن تعفيني.
قال: لا أعفيك.
قال: كان والله بعيد المدى وشديد القوى، يقول عدلا ويحكم فضلا، تتفجر الحكمة من جوانبه، والعلم من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير الدمعة طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلب كفيه على ما مضى، يعجبه من اللباس القصير، ومن المعاش الخشن، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويدنينا إذا أتيناه، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، يتحبب إلى المساكين، لا يخاف القوي ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله.
فأقسم، لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه، وأرخى الليل سرباله وغارت نجومه، ودموعه تتحادر على لحيته وهو يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا أإلي تعرضت أم إلي أقبلت؟
غري غيري، لا حان حينك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعيشك حقير وخطرك يسير، آه من قلة الزاد وبعد السفر وقلة الأنيس!
قال: فوكفت عينا معاوية ينشفهما بكمه، ثم قال: يرحم الله أبا الحسن! كان كذا فكيف صبرك عنه؟
قال: كصبر من ذبح ولدها في حجرها، فهي لا ترقأ دمعتها ولا تسكن عبرتها.