أنظر إلى من خلق الله العرش بعظمته لأجله بمستوى من التواضع بحيث يعلف ناقته بيده ويحلب شاته ويخصف نعله، وكذا هو حال وصيه حتى سمي «أبو تراب» سار في الناس بسيرة لا تميزه عن أحدهم، وكان أخشن الناس لباسا، وهو أفضل الخلق كافة خلقا وخلقا، مادة وطبيعة، علما ومعرفة، رحمة ومحبة، عبادة ورياضة، نورا وحكمة، سياسة ورياسة، نطقا ومهابة، صباحة وفصاحة، شوكة وشجاعة، زهدا وعفة، وهو - روحي فداه - الذي انطوى فيه العالم الأكبر بأتم وأكمل صوره وهو، ﴿الذي خلق من الماء بشرا وجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا﴾ (1).
ومع كل ما آتاه الله تجده يتوجه إلى الله بإظهار العجز والحاجة والفاقة والمسكنة والعبودية والانكسار في حضرة ذي الجلال، حتى لكأنه - والعياذ بالله - قد قصر في عبادته أو بدر منه ذنب يقول (عليه السلام) في مناجاته: «إلهي! إرض عني فإن لم ترض عني فاعف عني، فقد يعفو السيد عن عبده وهو غير راض (2); إلهي أللنار ربتني أمي، فليتها لم تربني، أم للشقاء ولدتني، فليتها لم تلدني» (3) والحال أنة لم يصدر منه ترك الأولى فضلا عن المعصية، ولكنه مقام معرفته بعظمة الله بدرجة من الكمال يرى فيها الله أمامه يراقب خضوعه، ومن شدة تواضعه لله لا يرى نفسه، ويستوحش عن أي ذكر سوى ذكر الله، كما قال ضرار في وصفه: «كان غزير الدمعة، كثير الفكرة، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته،