قال الجن: (وأنا لمسنا السماء) طلبنا استراق السمع منها. واللمس مستعار من المس للطلب: (فوجدناها) صادفناها (ملئت حرسا) حراسا اسم جمع كخدم:
(شديدا) قويا وهم الملائكة الذين يمنعونهم عنها (وشهبا) جمع شهاب وهو المضئ المتولد من النار: (وأنا كنا) قبل مبعثه (نقعد منها مقاعد) خالية عن الحرس والشهب أو صالحة للرصد والاستماع (للسمع) صلة نقعد أوصفة لمقاعد. وفسر النبي صلى الله عليه وسلم كيفية قعود الجن أنهم كانوا واحدا فوق واحد فمتى احترق الأعلى طلع الذي تحته مكانه وكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون فيما ويزيد الكاهن مائة كذبة. (فمن يستمع الآن) ظرف للحال ويستمع ظرف مستقبل فاتسع في الظرف واستعمل للاسقتبال (يجد له شهابا رصدا) أي أرصد له ليرمى به. هذا لمن استمع وأما السمع فقد انقطع كما قال الله تعالى: (إنهم عن السمع لمعزولون) [الشعراء 212].
ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا: (وأنا لا ندري أشر أريد) بعد استراق السمع (بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) خيرا.
قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك لئلا يشكل الوحي بشئ من خبر السماء فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله فيه لوقوع الحجة وقطع الشبهة.
فآمنوا وصدقوا (ثم ولوا) رجعوا إلى قومهم (منذرين) مخوفين قومهم العذاب إن لم يؤمنوا وكانوا يهودا. (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا) هذا القرآن (أنزل من بعد موسى، مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق) الإسلام (وإلى طريق مستقيم) أي طريقة (يا قومنا أجيبوا داعي الله) محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان (وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم) أي بعضها وهو ما يكون في خالص حق الله، فإن المظالم لا تعفر بالإيمان. (ويجركم من عذاب أليم) مؤلم.
(ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض) [الأحقاف: 32] أي لا يعجز الله بالهرب منه فيفوته (وليس له) لمن لا يجب (من دونه) أي الله (أولياء) أنصارا يدفعون عنه العذاب (أولئك) الذين لم يجيبوا (في ضلال مبين) بين ظاهر.
لطيفة: مناسبة سورة الجن لما قبلها أنه لما حكي تمادي قوم نوح صلى الله عليه وسلم في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام، وكان أول رسول إلى أهل الأرض، كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض، والعرب الذين هو منهم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء، وكان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن هاديا إلى الرشد