التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٢٣
بجيوش جرارة وجنود أقوياء مدربين جعلت منهم طبيعتهم، وثقافتهم، وحروب الفتح التي خاضوها مدة سنوات طويلة من خيرة المقاتلين في العالم.
ولا يمكن تبريره بنقص في التسليح وعدة الحرب وعتادها، فقد كانت معامل السلاح نشطة لتأمين احتياطي ضخم من السلاح لمجتمع كان لا يزال محاربا.
ولا يمكن تبريره بسوء الحالة الاقتصادية، فقد كان المال العام وفيرا بعد أن أصلحت الإدارة المالية في خلافة الإمام.
لم يكن إذن ثمة سبب للتخاذل سوى الموقف السياسي غير المعلن الذي صممت النخبة من الأعيان وزعماء القبائل على التمسك به والتصرف في القضايا العامة وفقا له، إلى النهاية، وذلك بهدف تفريغ حكومة الإمام علي من قوة السلطة، وجعلها عاجزة عن الحركة بسبب عدم توفر الوسائل الضرورية لها، وهذا ما يؤدي في النهاية إلى انتصار التمرد على الشرعية.
كان هذا الموقف السياسي غير المعلن هو سبب التخاذل.
وقد كان هذا الموقف غير معلن، بل كان قادة هذه النخبة يوحون بإخلاصهم وتفانيهم، لأن هذه النخبة كانت تخاف، إذا أعلنت موقفها وكشفت عن نواياها وأهدافها البعيدة وأمانيها المخزية، من جمهور الأمة أن يكتشف لعبتها ضد آماله ومصالحه، فيدينها ويعاقبها.
وقد حفظ لنا الشريف في نهج البلاغة نصوصا كثيرة يلوم فيها الإمام نخبة مجتمعه لوما قاسيا مرا على تراخيهم وتخاذلهم عن القيام بالتزاماتهم العسكرية في الدفاع عن الشرعية، ولا شك أن الإمام في آخر عهده كان مضطرا للإكثار من هذا اللوم والتقريع، كقوله في إحدى خطبه:
ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم 1 إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم 2،

(1) عقر دارهم: أصل دراهم، والعقر: الأصل، ومنه: العقار للنخل، كأنه أصل المال.
(2) تواكلتم: من وكلت الأمر إليك ووكلته إلي، أي لم يتوله أحد منا، ولكن أحال به كل واحد على الآخر.
(١٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 ... » »»