التخلص يختار أحدهما ولا يتوقف حتى يحصل عنده مرجح لأحدهما وكذا الجائع إذا وجد رغيفين متساويين فإنه يتناول أحدهما ولا يكف نفسه عنهما حتى يجد المرجح وكذا الظمآن إذا وجد قدحين من ماء متساويين إلى غير ذلك وهذا الوجه غير سديد إذ التحقيق امتناع الترجيح من غير مرجح كما يشهد به الفطرة المستقيمة ووجهه أن وقوع الترجيح تارة وعدمه أخرى مع تساوي الحالين واقعا كما هو المفروض يوجب الترجيح بلا مرجح وهو ضروري البطلان و أما التمسك بالأمثلة المذكورة ونظائرها فمدفوع بأن فرض التساوي من كل وجه لا يوجب وقوعه في الخارج وإن كان الحكم على تقديره حقا أ لا ترى أنا نقطع بأنه لو وضع عمود على حد سيف بحيث يتساوى ثقله من الجانبين وقف عليه ولم يمل إلى جانب مع أنا نرى بالتجربة أن الفرض لا يقع في الخارج وبالجملة ففرض التساوي في الأمثلة المذكورة لا يوجب وقوعه فإن هناك مرجحات خفية مؤثرة في الترجيح حاصلة في نظر المرجح وإن لم يتنبه لها و أقلها كون التفاته حال الترجيح إلى أحدهما أو إلى ما يترتب عليه من الغاية المقصودة أكثر ولا يلزم من كون شئ مرجحا تفطن الفاعل لكونه مرجحا ومن هنا ذكر بعض المحققين في باب النية أن الداعي إلى العمل قد يكون في الواقع محض الرياء ويعتقد العامل حال العمل أنه محض القربة ثم ينكشف له بعد تلطيف النظر وإعمال التأمل حقيقة الحال وقد يجاب بأن الترجيح في أمثال ذلك يستند إلى تأثير حركة الأفلاك فإن أريد أن حركتها تقتضي ترجيح أحدهما من غير أن يتحقق مرجح في نظر الفاعل فهذا التزام بمقالة الخصم وإن أريد أنه يرجح أحدهما لأنه في نظره موافق لما يقتضيه حركتها ففساده ضروري في حق من لا يطلع على ما يقتضيه في ذلك حركتها ولعله يريد أن حركتها توجب حصول ميل قلبي ولو خفي إلى أحدهما فيرجح لأجله وعلى هذا فيمكن أن يجاب أيضا بجواز أن يكون هناك مناسبة خفية لا تصل إليها عقولنا موجبة لحصول ميل قلبي إلى أحدهما فيرجح لأجله ولا حاجة إلى استناده إلى حركة الأفلاك واعلم أن من قال بجواز الترجيح بلا مرجح إن قال بجوازه مع عدم المرجح في النظر وواقعا صلح مقالته جوابا عن الشبهة المذكورة لكن يرد عليه ما مر من لزوم وقوع الترجح بلا مرجح في هذا الترجيح ويجوز أن يكون هناك ما يقتضي وقوع هذا الترجيح كحركة الأفلاك فإن فرض المساواة فيما لا يتعلق بالنظر ممنوع الوقوع إذ لا سبيل إلى إثباته وإن قال بجوازه مع عدم المرجح في النظر خاصة وإن كان هناك ما يقتضي وقوع هذا الترجيح سلم عن الاشكالين لكن مقالته لا تصلح حينئذ جوابا عن الشبهة إذ لا تنافي أن يكون الفعل لازم الصدور مع وجود ذلك المرجح فلا أثر للتجويز المذكور في الحل ويرد عليه على التقدير الأول أيضا أن مورد الشبهة ليس صورة تساوي الفعل والترك في نظر الفاعل بل أعم من ذلك إذ لا يقول أحد بثبوت الاختيار في الصورة الأولى خاصة والبيان المذكور ولو تم فإنما يجري في دفع الشبهة عنها خاصة وهي على تقدير تسليمها نادرة الوقوع الثاني وهو المعتمد أنا نختار أنه يحتاج إلى مرجح لكن نمنع كونه معه لازم الصدور من الفاعل إن أريد باللزوم أنه لا يتمكن مع المرجح إلا من الفعل وإن أريد أنه لا يأتي مع المرجح إلا بالفعل منعنا كون لزوم الصدور بهذا المعنى منافيا للاستناد إلى الاختيار كيف وهو وجوب بواسطة الاختيار فهو محقق للاختيار لا مناف له بيان ذلك أن الفاعل المختار هو من يفعل الفعل بقدرته عند وجود المرجح في نظره والقدرة فينا عبارة عن صفة زائدة بها نتمكن من الاتيان بالفعل والترك والمرجح عبارة عما هو الداعي إلى الفعل وحيث إن نسبة القدرة إلى كل من الفعل والترك على حد سواء فلا بد في تعلقها بالفعل من وجود داع معتبر في نظر الفاعل مستمر إلى زمن الفعل كما أنه يعتبر في استناد تركه إليها عدم الداعي إليه كذلك فحيث يتحقق الداعي المعتبر و يستمر يجب صدور الفعل منه بالاختيار لا بمعنى أنه لا يتمكن حينئذ إلا من الفعل بل بمعنى أنه لا يأتي إلا بالفعل البتة كما أنه حيث لا يتحقق الداعي يمتنع صدوره منه بالاختيار بمعنى أنه لا يأتي به البتة لا أنه لا يتمكن منه والدواعي تعتبر في صدور غير الإرادة من المختار بواسطتها وفي صدورها منه لا بواسطة ونعني بالإرادة العزم كما هو معناه لغة وعرفا وفسرت به في بعض الاخبار أيضا فأفعالنا الاختيارية مما عدا الإرادة مستندة إلى قدرتنا عند إرادتنا لها وهي مستندة إلى قدرتنا عند وجود الدواعي المعتبرة في نظرنا فالدواعي شرط في صدور الإرادة منا وهي شرط في صدور سائر الأفعال منا وليست الدواعي علة مقتضية أي فاعلة لوجود الإرادة فينا ولا الإرادة علة مقتضية لوجود سائر أفعالنا لظهور أن أفعالنا الاختيارية بأسرها صادرة منا لا من إرادتنا ولا من الدواعي الموجودة فينا ومن الواضح أن الشرط ليس بالمقتضي ولا بجزئه وإن اعتبر في اقتضائه أ لا ترى أن النار مقتضية للاحراق بشرط المماسة لا أنها و المماسة والمماسة وحدها مقتضية لذلك وإنما أسندنا الإرادة إلى القدرة لأنها عندنا من الأفعال الاختيارية وقد صعب فهم اختياريتها على كثير من الافهام نظرا منهم إلى أن الفعل الاختياري هو المسبوق بالإرادة فلو كانت الإرادة اختيارية لكانت مسبوقة بإرادة أخرى وينقل الكلام إليها فيتسلسل ومن هنا ذهب جماعة إلى أن الإرادة اضطرارية كالقدرة ولم يتنبهوا أن ضرورة الوجدان قاضية باختياريتها وفي الكتاب والسنة ما يدل على ذلك كالتوبيخ و التهديد عليها في قوله تعالى أ تريدون أن تهدوا من أضل الله وقوله تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم وقوله تعالى يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم
(٣٢٥)