الفصول الغروية في الأصول الفقهية - الشيخ محمد حسين الحائري - الصفحة ٣٣٠
عليه لا تقل إني هديت نفسي بل الله هداك ويساعد على ذلك ظاهر قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وإن كان الكل منه تعالى باعتبار وقوعه بمشيته وقضائه كما قال جل شأنه قبل ذلك قل كل من عند الله ولا ينافي تعميم الآية لمحل البحث كون الحسنة والسيئة في صدور الآية بمعنى الرخاء و الشدة أو الرخص والجدب ونحو ذلك لا بمعنى الطاعة والمعصية لأنهم ما كانوا يسندون طاعتهم إلى الله ومعاصيهم إلى النبي صلى الله عليه وآله ذلك لما تقرر سابقا من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد مضافا إلى مساعدة بعض الاخبار على ذلك إذا عرفت ذلك تبين عندك أنه تعالى أولى بحسنات العبد منه وأن العبد أولى بسيئاته منه تعالى كما ورد في الحديث ويمكن أن يعبر عن ذلك بوجه آخر وهو أن الوجود على ما تقرر في محله منبع الكمالات والخيرات كما أن الماهية منبع النقائص والشرور فإذا قوي جانب الوجود وغلب على الماهية غلب آثاره على آثارها على حسب ما فيه من القوة وبالعكس وحيث إن الوجود منه تعالى لأنه فعله فهو أولى به وبآثاره كما أن الماهية حيث كانت من العبد لان حقيقته وذاته فهو أولى بها وبآثارها الثاني يطلق الاستطاعة في حقنا تارة على الاستطاعة المقارنة لمتعلقها من الفعل أو الترك وهذه استطاعة تامة فعلية مقارنة لأثرها زمانا متقدمة عليه رتبة كتقدم حركة اليد على حركة المفتاح وأخرى على الاستطاعة المتقدمة على الفعل أو الترك وهذه استطاعة ناقصة لتوقفها على حصول أمور غير حاصلة وهي غير مستطاعة للعبد وإن كان التقدير حصولها كبقائه وبقاء ما كان حاصلا من القدرة وشرائطها الحاصلة وحدوث ما كان منها غير حاصل كزمان الفعل وغيره والعبد في هذه الاستطاعة يتساوى إليه نسبة الفعل والترك بخلافه في الاستطاعة السابقة فإنه لا يتمكن بها إلا على ما أوقعه بها من فعل أو ترك لامتناع رفع الواقع وقد يطلق الاستطاعة على ما يعم القسمين وحيث إن الاستطاعة الأولى هي الاستطاعة الحقيقية ورد في بعض الاخبار نفي استطاعة العبد قبل الفعل و نفيها عن غير ما فعله كما قال الصادق عليه السلام لرجل من أهل البصرة إن الله خلق خلقا فجعل فيهم آلة الاستطاعة ثم لم يفوض إليهم فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل فإذا لم يفعلوه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلا لم يفعلوه لان الله أعز من أن يضاده في ملكه أحد الحديث وقوله لان إلخ تعليل لقوله لم يفوض كما هو واضح الثالث قضية البراهين العقلية التي تقدمت الإشارة إليها أن ما صدر منه تعالى من خلقه لشئ أو ترك خلقه لشئ لا يكون إلا لحكمة مرجحة وجهة محسنة فإنه لا يصدر منه تعالى إلا الجميل ولا يلزم وضوح حكمته عندنا بلى نذعن بثبوتها إجمالا و إن خفيت تفاصيله وعلى مدركات عقولنا ومنه يظهر صحة ما ذكره بعض الحكماء الفلاسفة من أنه ليس في الامكان أبدع مما كان و لا فرق في ذلك بين خلق المكلفين وغيرهم ولا في خلق المكلفين بين خلق الكافر منهم وغيره إلا أن لبعضهم في خلق الكافر شبهة معروفة وهي أن ذات الكافر إذا كانت مستعدة لصدور الكفر و الطغيان منها بحيث يستحيل انفكاكها عن ذلك في الخارج ولو بواسطة القدرة والاختيار وكان ذلك موجبا لخلوده في النار و مستلزما لبقائه في العذاب المستدام فأي فائدة في خلقه وإيجاده و الحال هذه بل الراجح حينئذ ترك إيجاده فإن العقلا يؤثرون عدم مثل هذه الذات على وجودها ويرجحونه عليه وأما المؤمن الفاسق فالخطب بالنسبة إليه هين لأنه وإن ابتلي برهة من الدهر بفضائح أعماله إلا أن فوزه بعد ذلك بالنعمة الأبدية المترتبة على إيمانه مما يرجح حكمة خلقه والجواب أن إيجاده تعالى للكافر إحسان منه بالنسبة إليه حيث أوجده قادرا ومتمكنا من الايمان والفوز بثمراته من النعيم الأبدي وعرفه ذلك وهداه إليه وكون ذاته مقتضية لاختياره الكفر بعد إتمام الحجة عليه والوقوع في العذاب الأبدي لا يصير إحسان الوجود قبيحا في حقه بل الانكار إنما يتوجه عليه في صدور مقتضيات العذاب منه لاستناده إلى اختياره وقدرته وترجيح العقلا عدمه على وجوده ليس بالنسبة إلى موجده بمعنى أن موجده لو ترك إيجاده لكان أولى بل بالنسبة إلى ذات الكافر بمعنى أنها لو كانت معدومة كان أولى لها من كونها موجودة وكذلك الحال في كل تكليف لا يلتزم المكلف بامتثاله فإن التكليف بالنسبة إلى المكلف راجح بمعنى أن صدوره عنه أولى من عدمه للحكم الداعية إليه و بالنسبة إلى المكلف مرجوح بمعنى أنه لو لم يكلف لكان أولى له و أيضا قد يشتمل خلق الكافر على منافع عظيمة عائدة إلى المؤمن من حيث تحمله أذاه ومعاداته إياه فلو ترك إيجاده لادى إلى تفويت حق المؤمن وإضاعة ما يستعد له من الفوز بأجر الصبر على المشاقة و تحمل بلوى المجاهدة وربما يعد مثله ظلما في حقه وقد يجاب عن ذلك بأجوبة أخر بظاهرها ظاهرة الوهن لا جدوى في التعرض لها هذا واعلم أنه قد يتوهم أن الحجة المذكورة على تقدير صحتها لا ترد على الجبائية لان اللاوم والاتفاقي قد يكون لهما جهات و اعتبارات وضعفه ظاهر لان اللازم والاتفاقي إذا لم يكن صدورها بالاختيار امتنع اتصافهما بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه لما مر من أن الفعل الغير الاختياري لا يوصف بهما بالاتفاق ثم اعلم أن الدليل المذكور لو تم لكان أخص من المدعى لان مفاده نفي التحسين والتقبيح في أفعال العباد فقط والمقصود نفيهما مطلقا الثاني في كيفية ثبوت التحسين والتقبيح وقد عرفت أنهم اختلفوا في أن لحوقها للأفعال هل هو لذواتها أو لصفات لازمة لها أو لصفة في القبيح دون الحسن أو بالوجوه والاعتبار والتحقيق أن من الافعال ما يتصف بالحسن بالذات كحسن الايمان ومن هذا
(٣٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 325 326 327 328 329 330 331 332 333 334 335 ... » »»