فقدرته عليه محققة لعلمه تعالى بفعله على وجهه لا ينافيه له وإنما يلزم القلب إذا فعل خلاف ما علمه تعالى لكنه محال فاتضح أن استحالة قلب علمه تعالى جهلا راجعة إلى استحالة علمه تعالى بخلاف ما يقع منك بقدرتك لا إلى استحالة قدرتك على خلاف ما علمه فأنت قادر في نفسك على خلاف ما علمه لكنه محال في حقه أن يعلم خلاف ما تعلمه وبالجملة فصدور الفعل من العبد بالاختيار أثر من آثار وجوده الذي هو فعل من أفعاله تعالى وكما أن علمه تعالى محيط بأفعاله محيط بما يترتب عليها من الآثار اختيارية كانت أو اضطرارية لا يقال هناك معلومان وقوع الفعل من الفاعل وقدرته على تركه وبإزاء هذين المعلومين علمان والمنافاة المذكور إنما يتحقق بين المعلوم الثاني والعلم بالأول ولا يجدي فيه العلم بالمعلوم الثاني لأنه إذا كان في نفسه منافيا للعلم الأول كما مر امتنع تحققه فيمتنع العلم به لأنا نقول المعلوم الثاني مأخوذ في المعلوم الأول لان وقوع الفعل إذا كان مستندا إلى القدرة كان أثرا من آثار القدرة وجهة من جهاتها فلا يستقل عنها فمرجع العلمين عند التحقيق إلى العلم بالقدرة وبأثرها المترتب عليها واعلم أن ما ذكرناه من منع استناد وقوع المعلوم فيما مر إلى العلم إنما يتم في علم غيره تعالى وأما في علمه تعالى فإنما يتم على مذهب الأشاعرة القائلين بزيادته على ذاته تعالى و ورود البيان المذكور على هذا القول في غاية الظهور ومن العجب العجاب أن الفخر الرازي مع موافقته لأصحابه في القول بزيادة العلم على الذات قال بعد أن أورد الشبهة بالبيان الثاني لو أن جملة العقلا اجتمعوا وأرادوا أن يوردوا على هذا الكلام حرفا واحدا لما قدروا عليه إلا أن يلتزموا مذهب هشام بن الحكم وهو أن الله تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها لا بالوجود ولا بالعدم إلا أن أكثر المعتزلة يكفرون من يقول وهذا القول انتهى أقول أما ما زعمه في حق العقلا من العجز عن رد شبهته فناشئ عن فرط قصوره وضعف شعوره حيث أحسن بنفسه العجز عن الجواب فقاس بها غيره من ذوي الألباب وأما المذهب الذي نسبه إلى هشام بن الحكم فمن مفترياتهم الموضوعة عليه لان الرجل من أجلا أصحابنا في الكلام ومن خواص الإمام الكاظم عليه السلام فكيف يعقل صدور هذا القول منه هذا وأما على القول بعينية علمه تعالى لذاته كما هو الحق المحقق في محله فلا يتم منع استناد الافعال إليه لاستلزامه منع استنادها إلى الذات بل الوجه حينئذ أن يقال استناد الافعال إلى العلم كاستناده إلى الذات فكما أن استنادها إلى الذات ليس على وجه ينافي صدورها عن العبد على وجه الاختيار كما مر بيانه في دفع الشبهة الأولى فكذلك استنادها إلى العلم فإن الاستنادين من جهة واحدة إذ لا تعدد بينهما في الحقيقة و اعلم أن قضية القول بعينية العلم للذات أن لا يكون مضافا إلى المعلوم ولا متفرعا عليه وأن لا يكون العلم باللوازم مستفادا من العلم بالملزوم ولا العلم بالمركب متوقفا على العلم بأجزائه ضرورة أن الوجوب الذاتي لا يجامع التوقف والاحتياج وقد أشير إلى ذلك في قوله عليه السلام عالم إذ لا معلوم وسميع إذ لا مسموع وبصير إذ لا مبصر بل قضية بساطة الذات أن يكون علمه بشئ عين علمه بآخر وإلا لزم تركب الذات وكما أن قدرته تعالى عين ذاته بلا توقف على تقرر المقدور في مرتبة ذاته ولا على إمكانه بل قدر وكان المقدور ممكنا كذلك علم وكان المعلوم على الوجه الذي علمه وكما أن تكثر المقدورات لا ينافي وحدة القدرة فكذلك تكثر المعلومات لا ينافي وحدة العلم وبالجملة فلا يقاس العلم الواجب بعلومنا الممكنة التي تتفرع على المعلوم وعلى العلم بالملزوم بالنسبة إلى لوازمها بواسطة وبدونها ويتعدد بتعدد معلوماتنا ومما قررنا من عدم منافاة وحدة العلم لتعدد المعلوم ربما يتنبه العارف أن لا منافاة بين وحدة الصنع وتكثر المصنوعات كما يقتضيه برهانهم على توحيد الافعال لا كما فهمه بعض القاصرين من أن فردا من الممكنات كالعقل الأول صادر منه تعالى والبواقي صادرة من ذلك الممكن بواسطة وبدونها وأنه يستحيل خلاف ذلك لبطلانه بالعقل والنقل قال الله تعالى هل من خالق غير الله وقال تعالى الله خالق كل شئ إلى غير ذلك ولا يجدي ما يقال من أن صنع المصنوع صنع الصانع نظرا إلى إقداره على ذلك لأنه لا يوجب استعانته تعالى ببعض مخلوقاته على خلق بعض آخر وهو باطل كسابقه بل بمعنى أنه تعالى صانع كل شئ بصنع واحد وإن تعدد بالإضافة على حسب اختلاف مراتب المصنوعات كما أنه قادر على الأشياء بقدرة واحدة وعالم بها بعلم واحد وإن اختلفت المقدورات والمعلومات في حد ذواتها وينبغي التنبيه على أمور الأول اختلاف العباد في الطاعة والعصيان مع تساويهم في القدر المعتبر في صحة التكليف من العلم والعقل و القدرة ناشئ من اختلاف إراداتهم واختلافها ناشئ من اختلاف دواعيهم و اختلافها ناشئ من اختلاف إدراكاتهم وملكاتهم واختلافها ناشئ من اختلاف استعداداتهم ومنشأ هذا الاختلاف أمران الأول اختلاف ذواتهم وطبائعهم كما يدل عليه أخبار الطينة وقد أشير إلى ذلك فيما روي من أن السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه وليست الطينة جابرة على الفعل الجميل أو القبيح وإنما هي مستلزمة لصدوره عنهم بالاختيار عند عدم المانع فالمخلوق من طينة العليين يأتي عند استجماعه للشرائط المعتبرة بالافعال الجميلة باختياره على حسب ما فيه من الدواعي الناشئة من تلك الطينة الطيبة بواسطة الملكات الجميلة المفاضة عليها لأهليتها لذلك والمخلوق من طينة السجين يأتي بالافعال القبيحة باختياره على حسب ما فيه من الدواعي الناشئة من تلك الطينة الخبيثة بواسطة الملكات
(٣٢٨)