نسبة خلق الكثير إليه كنسبة خلق الواحد إليه قال تعالى ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة فالترتيب الزماني إنما هو بين الموجودات الزمانية مقيسا بعضها إلى بعض ولقد عسر فهم هذا المعنى على الافهام القاصرة المقصورة على إدراك الأمور الزمانية فصدرت منهم مقالات فاسدة ناشئة عن قصور النظر عن إدراك المجرد عن الزمان كتمسك بعض الحكماء على قدم العالم بأن علة وجوده إن كانت تامة في الأزل لزم القدم وإن كانت ناقصة متوقفة على حدوث أمر فيما لا يزال فهو أيضا من العالم وننقل الكلام إليه فيلزم القدم أو يتسلسل وكجواب بعض المتكلمين عنه بأنه يجوز أن يكون الحكمة قاضية بإيجاد العالم في وقت معين ومرجعها إلى العلم بالأصلح و كتمسك بعض على نفي علمه تعالى بالجزئيات بأنها تتغير ويمتنع التغير في علمه تعالى إلى غير ذلك ووجه فساد الأولين أنه لم يكن قبل خلقه تعالى للزمان زمان ولا وقت فلا معنى للسؤال عن سبب تأخير إيجاد العالم من وقت إلى وقت ولا الجواب بإمكان قضاء المصلحة بالتأخير كما أنه لا معنى للسؤال عن علة خلق الأفلاك بما فيها في هذا المكان المخصوص دون غيره ولا الجواب بقضاء الحكمة بذلك إذ لا مكان قبل خلق المكان نعم يتجه السؤال عن علة عدم خلق زمان قبل الزمان الأول بناء على عدم قدمه كما يتجه السؤال عن علة عدم خلق فلك آخر فوق الأفلاك الموجودة أو خلق مكان فوق المكان الموجود ويتجه الجواب حينئذ بمراعاة الحكمة ووجه فساد الأخير أن نسبة تغيرات المتغير إليه تعالى نسبة واحدة لا تقدم ولا تأخر لها بالنسبة إليه وإنما التقدم والتأخر متحقق بين تلك التغيرات فهو تعالى عالم بكل شئ في مرتبته لا تغيير في علمه فعلمه بذات زيد مثلا في مرتبة ذاته وبوجوده في مرتبة وجوده وبعدمه في مرتبة عدمه وبقيامه في مرتبة قيامه وبجلوسه في مرتبة جلوسه و هكذا وإن شئت مزيد توضيح لذلك فانظر إلى علمك بالتغيرات اللاحقة للحوادث الماضية فإنك ترى أن علمك بها من حيث كونه علما بها غير متغير وإنما ترى التغير في المعلوم بحسب مراتبه اللاحقة له وأما علمك في هذا اليوم بأن زيدا مثلا يوجد غدا ثم زوال علمك هذا في غد وحدوث علم لك بأنه موجود الان ثم زوال علمك هذا أيضا بعد ذلك وحدوث علم لك بأنه كان قبل هذا موجودا فناشئ عن مقايسة زمان وجود زيد إلى أزمنة وجودك فترى وجود زيد تارة متأخرا عن زمان وجودك الذي أنت فيه ومرة مقارنا له وأخرى متقدما عليه فيلحقك بحسب كل زمن من أزمنة وجودك الثلاثة علم مغاير لعلم الاخر وحيث إنه تعالى لا يحيط به الزمان لا يتصور بالنسبة إليه ماض ولا حال ولا مستقبل فيمتنع ذلك في حقه بل هو تعالى عالم بتأخر وجود زيد عن بعض أزمنة وجودك وبمقارنته لبعض منها وبتأخره عن بعض آخر علما أزليا أبديا لا يتغير والسر في ذلك كله أن وجوده تعالى ليس وجودا امتداديا ولا بقاؤه بامتداد وجوده كما يتصور في الموجودات الزمانية بل إذا قلنا هو أزلي فعلى معنى أن وجوده غير مسبوق بالقدم وإذا قلنا أبدي فعلى معنى أن وجوده لا يلحقه عدم و قد يتوهم أن علمه تعالى بالأشياء ليس إلا نحو وجودها فلا يعلم بها إلا حال وجودها وهو فاسد لاستلزام بطلان قدرته تعالى وحكمته لان الفاعل للشئ من غير علم لا يكون قادرا عليه ولا يعد حكيما و لاستلزامه إسناد الجهل إليه تعالى في مرتبة ذاته لتقدمها على فعله الذي يزعم هذا المتوهم أنه علمه وأن يكون علمه تعالى بالأشياء زائدا على ذاته لحدوثه وقدمها فيلزم أن يكون محلا للحوادث بل الحق أنه تعالى عالم بذاته بالحوادث في مراتبها حيث لا حادث ولا مرتبة و بعبارة أخرى عالم بذاته بها قبل حدوثها وقبل مراتبها وقد أشار إليه عليه السلام بقوله عليه السلام عالم إذ لا معلوم وسميع إذ لا مسموع وبصير إذ لا مبصر وعلمه تعالى بها بعينها ونفسها لا بوجهها وصورتها وإلا لزم جهله بعينها أو حدوث علمه بها وكلاهما محال وأما ما دل من الآيات على حدوث علمه تعالى ببعض الحوادث كقوله تعالى لنعلم أي الحزبين أحصى وكقوله تعالى ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين فمؤول إذا عرفت هذا تبين عندك أن إرادته تعالى ليست زمانية لان الزمان موجود بها فهو متأخر بحسب المرتبة عنها فلا تكون محاطة به فظهر من ذلك بطلان الدفع الثاني بما ذكر فيه واعلم أن الذي يقتضيه البراهين العقلية و يستفاد من أخبار أهل العصمة أن إرادته تعالى مخلوقة له لا تفارق المراد لأنه عبارة عن إيجاده وإحداثه تعالى فإنه لا يروى ولا يهم و لا يتفكر ومثلها المشية إلا أنها متقدمة بحسب المرتبة على الإرادة كما يستفاد من بعض الاخبار فيكون الفرق بينهما بالكلية والجزئية وقد يطلق أحدهما على ما يعم الاخر كما هو معناهما لغة فيترادفان و زعم بعض متأخري أصحابنا أن المشية قديمة وأنها عين الذات كسائر الصفات الذاتية وحمل ما دل من الاخبار على أنه مخلوقة كقوله عليه السلام خلق الله الأشياء بالمشية وخلق المشية بنفسها على مشية العباد وهو تكلف واضح وفي بعض الاخبار تصريح بأنها محدثة وليست بقديمة وحملها على مشية العباد غير سديد إذ لا يذهب وهم إلى قدمها وفي بعض الاخبار أنها غير العلم معللا بأنك تقول افعل كذا إن شاء الله ولا تقول إن علم الله فلو كانت نفس الذات لكانت نفس العلم فلا يبقى فرق بينهما إلا بمجرد المفهوم وهو لا يصلح فرقا لصحة القول الأول وبطلان الثاني نعم كونه تعالى بحيث يشاء ويريد الأصلح عين الذات لأنه بذاته كذلك إلا أن إطلاق المشية والإرادة على ذلك مجاز الرابع جواب الحل وبيانه من وجهين الأول أنا نختار كون الفعل غير لازم الصدور من الفاعل ونمنع احتياجه إلى المرجح لجواز الترجيح من غير مرجح بدليل أن الهارب من السبع إذا صادف طريقين متساويين في نظره
(٣٢٤)