الفصول الغروية في الأصول الفقهية - الشيخ محمد حسين الحائري - الصفحة ٣٢٠
لم يضطر الكاذب إليه حتى إنه لو ترتب على الكذب جلب المنافع لم يخرج بذلك عن قبحه العقلي ولهذا نرى أن الذي يرتكب الأقاويل الكاذبة لمجرد استجلاب المنافع لنفسه أو لغيره ساقط المحل عند العقلا مذموما لديهم بلا امتراء ولا يعذره عندهم توقف استجلابه لتلك المنافع عليه ومثله الحال في ارتكاب سائر القبائح العقلية فإذا ثبت أن الجهة الرافعة لقبح الكذب منحصرة بالضرورة في الاضطرار إليه امتنع وقوعه منه تعالى لامتناع تحقق الاضطرار بالنسبة إليه لأنه على كل شئ قدير ولا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء ومن هنا يظهر امتناع الكذب على الأنبياء ولو من باب التقية و إن جاز تحقق الاضطرار الرافع لقبح الكذب في حقهم وذلك لدلالة المعجزة على تصديقه تعالى إياهم فيما يدعونه ويخبرون به و لا ريب في قبح تصديق الكاذب إلا مع الاضطرار إليه لأنه في معنى الكذب وقد عرفت امتناع الاضطرار عليه تعالى على أنه لو جاز التقية على الأنبياء لزال فائدة بعثتهم وهو مناف للحكمة الباعثة عليه و أما الامام فليس الحال فيه كذلك والفرق أن النبي منصوب بقاعدة اللطف لاظهار الحق وإمحاق الباطل وإتمام الحجة وقطع المعاذير على من آمن برسالته ومن كفر بها سواء أمن من شره أو لم يأمن وأما الامام فهو وإن كان قائما مقام الرسول صلى الله عليه وآله في كونه الرئيس العام الواجب اتباعه على سائر الأنام إلا أن منصبه منصب العلماء الحاملين للأحكام الشرعية وأسرارها الامرين بالمعروف والناهين عن المنكر عند التمكن وأمن الضرر فإذا اضطروا إلى التقية في الكلام جاز لهم ذلك بطريق التورية والسر في ذلك أن الحجة قد تمت ولزمت على الأنام ببيان الرسول عليه وآله السلام حتى بالنسبة إلى وجوب معرفة الامام واتباعه فشأنه بعد الرسول إنما هو إزاحة الجهل ببيان ما يحتاج إليه من تفاصيل المعارف والاحكام مع أمن الضرر ولا ريب أن هذا لطف آخر لا يغني عنه اللطف السابق وعند التحقيق هذا كمال لذلك اللطف وإتمام لتلك النعمة كما قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فإن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله يوم غدير خم بعد عقده الخلافة والولاية لعلي صلوات الله عليه كما اتفقت عليه روايات الخاصة ونطق به بعض روايات العامة السادس الآيات والأخبار الدالة بالصراحة أو بالفحوى على ثبوت التحسين والتقبيح العقليين فالآيات كقوله تعالى أ فنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض وكقوله تعالى هل جزأ الاحسان إلا الاحسان وأمثال ذلك كقوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وكقوله تعالى قل إن الله لا يأمر بالفحشاء وكقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل و الاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر و البغي وكقوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش الآية إلى غير ذلك و حمل المعروف والمنكر والفحشاء على ما هو كذلك شرعا أو ما يشتمل على المصلحة أو المفسدة أو على صفة كمال أو نقص تكلف واضح وأما الأخبار الدالة على ذلك فهي أكثر من أن تحصى حجة الخصم وجوه الأول أنهما لو كانا بالعقل لزم قيام المعنى بالمعنى و التالي باطل أما الملازمة فلان حسن الفعل صفة وجودية أما أنه صفة فلانه زائد على مفهومه ضرورة أنه لا يلزم من تعقل الفعل بالكنه تعقله وأما أنه وجودي فلان نقيضها وهو لا حسن سلب بدليل أنه لا يقتضي محلا موجودا وإلا لم يصدق على المعدوم فيكون الحسن وجوديا وإلا لارتفع النقيضان فإذا ثبت كونه صفة وجودية ثبت كونه معنى لأنه معناه ويتصف به الفعل حيث يقال إنه حسن ولا يصح وصف الشئ بمعنى يقوم بغيره فإذا ثبت قيامه بالفعل وهو أيضا معنى لزم قيام المعنى بالمعنى وهو المذكور بالتالي وأما بطلانه فلانه يلزم أن يكون الوصف لمحل الفعل لتبعيته له في التحيز وهو معنى القيام فلا يكون قيامه بالفعل والجواب أما أولا فبالنقض بالحسن و القبح الشرعيين فإنه لا نزاع في اتصاف الفعل بهما كما مر مع جريان الاشكال المذكور فيه وكذا اتصافه بغيرهما من الصفات التي لا مجال لانكار اتصافه بها ذاتية كانت كالامكان أو لا كالمطلوبية والمبغوضية وموافقة المصلحة ومخالفتها والكمال والنقص وغير ذلك وأما ثانيا فبالحل و هو أن الصفة قد تكون وجودية متحققة في موصوفها وقد يكون اعتبارية منتزعة عنه وقد تقرر في محله أن نقيض كل شئ رفعه فنقائض الصفات الوجودية عبارة عن رفع وجودها عن الموصوف ونقائض الصفات الاعتبارية عبارة عن رفع كون موصوفها منشأ لانتزاعها وحينئذ فنقول نقيض الحسن ليس سلب وجود الحسن بل سلب كون الفعل منشأ لانتزاعه فلا يلزم من كونه عدميا كون الحسن صفة وجودية حتى يلزم من قيامه بالفعل قيام المعنى بالمعنى ومثله الكلام في القبح وتوضيح ذلك أن من الصفات ما له وجود في الموضوع في ظرف الاتصاف من الذهن أو الخارج كالحركة والحرارة والبياض ويعبر عنها بالصفات الوجودية ومنها ما لا وجود له فيه في ظرف الاتصاف وإنما في الخارج أو في الذهن ما يصح انتزاعه عنه كالامكان والوحدة والكثرة ويعبر عنها بالصفات الاعتبارية وقد يعبر عنها بالصفات الثبوتية وربما يسمى ذلك أيضا ضربا من الوجود توسعا فالصفات التي تكون من النوع الأول يعتبر في اتصاف الموضوع بها وجودها له في ظرف الاتصال فنقائضها عبارة عن رفع وجودها له فيه والصفات التي تكون من القسم الثاني لا يعتبر في اتصاف الموضوع بها وجودها له في ظرف الاتصاف بل يعتبر كونه فيه بحيث ينتزع منه تلك الصفات فنقائضها عبارة عن رفع كون الموضوع منشأ لانتزاعها ولا ريب أن الحسن والقبح من هذا النوع دون النوع
(٣٢٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 315 316 317 318 319 320 321 322 323 324 325 ... » »»