غير متعين بل مناف لظاهر الفعل بل ظاهر المعنى والله أعلم أنه تعالى لو شاء إيمانهم باختيارهم وذلك بأن أوجد فيهم دواعي الايمان ويسلب عنهم الملكات والأحوال الداعية لهم إلى الكفر والطغيان لامنوا وإنما لم يشأ ذلك في حقهم لعدم استعداداتهم وانتفاء أهليتهم فتركهم على الملكات والأحوال اللاحقة بحالهم فآثروا الكفر و الشقاء واستحبوا العمى على الهدى ومن هذا الباب ما ورد من أنه تعالى أمر إبليس بالسجود وشاء أن لا يسجد ولو شاء أن يسجد لسجد ونهى آدم عليه السلام عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل ولو شاء أن لا يأكل لما أكل وأما الاعتذار الذي حكاه تعالى عن الكفار في قوله سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ وفي قوله قال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الآية فقد اتضح مما حققناه أنه مقالة فاسدة ومعذرة داحضة كما أشير إليه في ذيل الآية لأنهم إن زعموا أنهم مجبورون على الشرك والعصيان عند مشيته تعالى ذلك في حقهم أو على ترك الطاعة والايمان عند عدم مشيته تعالى ذلك منهم فجوابه واضح مما مر فإن المشية إنما قضت بصدور ذلك منهم بطريق الاختيار فكيف يصدر منهم بطريق الاضطرار لمخالفته لمقتضاها بل أثر المشية في الأفعال الاختيارية إنما هو إمضاء ما تقتضيه الذوات بإحداث أسبابه ومقدماته اللائقة به الغير المنافية للاختيار كما أشير إليه في قوله تعالى وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإن زعموا أن المشية لما قضت بصدور الشرك وشبهه منهم ولو بالاختيار فلا اعتراض عليهم في ذلك أو لا يكون تركه مطلوبا منهم ففيه أن الضرورة قاضية بأن من يصدر عنه القبائح بالاختيار يستحق بذلك الذم والعقاب ولا ينافيه وجوب الصدور عنه بحسب ما فيه من الدواعي بعد تمكنه واختياره واستناد الوجوب إليه ولا منافاة بين مشيته تعالى لصدور الشرك منهم و بين نهيه تعالى إياهم عنه فإن مرجع الأول إلى إحداث المقدمات المفضية إلى صدور الشرك منهم بالاختيار على حسب ما لهم من الاستعداد كما هو قضية حكمته في الصنع و الثاني إلى بيان حكم الشرك عنده من المكروهية وعدم الرضا به كما هو قضية حكمته في الحكم وأما الجواب عن الوجه الثاني فبما مر من الأجوبة الثلاثة المتقدمة من أنه شبهة في مقابلة الضرورة فلا يلتفت إليه وأنه ينافي وقوع التكليف وما يتبعه المعلوم بالاتفاق وأنه منقوض بأفعاله تعالى لعلمه بها كعلمه بأفعالنا فيلزم أن لا يكون مختارا فيها وهو باطل بالاتفاق مضافا إلى جواب رابع به تنحل الشبهة وتقريره أن قضية العلم انكشاف الواقع للعالم لا التأثير في وقوعه و مما يوضح ذلك أنا لو فرضنا وجود فاعل يصدر عنه أفعاله باختياره وفرضنا أن لا علم لاحد بشئ من أفعاله أصلا كانت أفعاله صادرة عنه على وجه الاختيار لا محالة لانتفاء ما يدعى منافاته للاختيار فلو فرضنا حينئذ علم عالم بها قبل وقوعها منه لم يتغير حال ذلك الفاعل المختار في الواقع من جهة علم العالم بها بالضرورة وإن فرض استحالة عدم مطابقة علم ذلك العالم للواقع لان مرجعها إلى استحالة انكشاف غير ما يقع من الفاعل باختياره له لا إلى تأثير علمه في وقوع ما يقع منه ليلزم منه اضطراره في الفعل من جهة علمه به وزوال اختياره عنه وإلا لزم مثله في العلم المتأخر مع استحالة تأثير اللاحق في التعليق بل نرى بالضرورة أن حال هذا الفاعل حال تعلق ذلك العلم بأفعاله كحاله حال عدم تعلقه بها في استناد أفعاله إلى اختياره وإن شئت زيادة توضيح لذلك فانظر إلى علمك بترطيب الماء وإحراق النار وإضاءة الشمس فهل تجوز أن لا يكون علمك هذا مطابقا للواقع مع أنك تعلم علما ضروريا بأن علمك بذلك مما لا أثر له في ترتب تلك الآثار عليها فإذا ثبت عدم مدخلية العلم في وقوع ما يتعلق به من الافعال الاضطرارية ثبت عدم مدخليته في وقوع ما يتعلق به من الأفعال الاختيارية لان الجهة جهة واحدة لا يعقل اختلافها باختلاف ما تعلقت به وبهذا البيان يتضح الجواب عما ادعي في البيان الثاني من المنافاة الذاتي بين تعلق العلم بوقوع كل من الفعل والترك وبين وقوع الاخر لأنه إن أريد بالمنافاة الذاتي ما هو الظاهر منه من كونه مانعا من وقوع الاخر ومقتضيا لعدمه فقد عرفت فساده مما مر حيث بينا أن العلم ليس كذلك وأنه لا مدخل له في وقوع المعلوم ولا في عدم نقيضه وإنما مقتضاه بل حقيقته الكشف عن الواقع وإن أريد به مجرد استحالة وقوع نقيض المعلوم ولو لأمر آخر غير العلم كاختيار الفاعل فمتجه إلا أنه لا يدل على نفى الاختيار وبالجملة فالمستحيل هناك أمران الأول وقوع غير ما يقع من الفاعل المختار و من هذه الاستحالة إلى وجوب الصدور منه من جهة تحقق علته التامة التي من جملتها الاختيار والقدرة وهذا هو الوجوب بالاختيار و قد حققنا في دفع الشبهة الأولى أنه لا ينافي الاختيار بل يحققه الثاني تخلف علم العالم عما علمه ومرجع هذه الاستحالة إلى استحالة علمه بغير الواقع لا إلى سببيته للواقع واستدعائه له وكذا يتضح الجواب عما ذكر في الوجه الأخير من أن القدرة على خلاف ما علمه تعالى قدرة على قلب علمه تعالى جهلا وهو محال وذلك لأنا نلتزم بأن لا قدرة على قلب علمه تعالى جهلا لكن نمنع منافاة ذلك للقدرة على خلاف المعلوم وتوضيحه أنه تعالى لما كان عالما بالأشياء على ما هي عليه في الواقع فلا بد أن يكون علمه بالفعل الاختياري على وجهه من وقوعه عن الفاعل على وجه الاختيار وحينئذ فيرجع الحاصل إلى أنه تعالى عالم بأن الفاعل المختار يفعل كذا حال قدرته على خلاف ما يفعله فإن ذلك معنى اختيارية الفعل له فقدرة الفاعل على خلاف ما علمه تعالى منه ليس قدرة على قلب علمه تعالى جهلا كيف وقد علم بوقوعه منه في هذه
(٣٢٧)