الفصول الغروية في الأصول الفقهية - الشيخ محمد حسين الحائري - الصفحة ٣٢٣
أفعال العباد الاختيارية صادرة عنهم بقدرتهم واختيارهم بدون وجوب سابق وأنهم يستحقون عليها المدح والذم وأنهم مستقلون بالقدرة عليها بمعنى أنهم إن شأوا فعلوا سواء شاء الله تعالى ذلك أو شاء عدم وقوعه ولو مشية جازمة وهذا القول بالتفويض وحيث إن بسط المقال في هذه الأقوال خارج عما يقتضيه الحال فلنعطف عنان القلم إلى الجواب عن الشبهتين المذكورتين على وجه يتضح به قول المختار وبطلان ما عداه فنقول أما الجواب عن الوجه الأول فمن وجوه الأول أن هذه شبهة في مقابلة الضرورة فإنا نجد الفرق بالضرورة بين حركة المختار وحركة المرتعش ولا يلتفت إلى الشبهة إذا صادمت الضرورة وهذا البيان ليس على ما ينبغي لان العلم الضروري بالفرق لا يقتضي أن يكون حركة المختار مستندة إلى اختياره فإن مقارنة القدرة والعلم والإرادة للأول دون الثاني كاف في الفرق نعم يتم ذلك ردا على المذهب الأول من مذاهب الخبرية فالأولى أن يقال تشهد ضرورة الوجدان بأن من الافعال ما نتمكن من الاتيان بها وبتركها ويستند كل منهما إلى قدرتنا وإرادتنا ولا نعني بالاختيار إلا ذلك فلا يصغى إلى الشبهة المذكورة وإن قدر العجز عن حلها فإن قيل كل شبهة يعجز عن حلها فإما أن ترجع مقدماتها إلى الضرورة أو لا فإن كان الثاني فلا عجز عن الحل لتطرق المنع إلى المقدمة التي لا يئول إلى الضرورة وإن كان الأول فلا وجه لترك الالتفات إليها بمجرد وقوعها في مقابلة الضرورة إذ يكون التصادم حينئذ بين الضرورتين أجيب بأن المعتبر في توجه الشبهة أن يرجع مقدماتها إلى الضرورة إذا ما لوحظت في نفسها إلا بالنظر إلى المعارض الضروري ولا خفاء في أن مراتب الضرورة مختلفة في الوضوح شدة وضعفا فمجرد معارضة ضروري لاخر لا يوجب تطرق القدح إلى كل منهما إذ قد يكون أحدهما في الوضوح والبداهة بمكان يقدح في بداهة الاخر ولا يقدح الاخر في بداهته كما في المقام لكن لا يكون الدفع بمثل ذلك حلا للشبهة حتى ينافي فرض العجز عنه إذ لا يمكن توجيه المنع إلى شئ من مقدماتها بالخصوص الثاني أن الافعال لو كانت اضطرارية لبطل التكليف والحث والردع والوعيد والانكار و الانذار والتوبيخ ونحو ذلك مما اشتمل عليه الكتاب والسنة لقضاء ضرورة العقل والعادة بقبح هذه الأمور بالنسبة إلى المضطر و باستحالة وقوعه من العالم الحكيم وليت شعري هل يجوز من له أدنى شائبة من العقل أن يقول المولى لعبده لا تقع في الماء ثم إنه يلقيه فيه ويقول له لم وقعت فيه ويعاتبه ويعاقبه على ذلك فكيف جوز هؤلاء الملاحدة أن يخلق الله الكفر في عباده ثم يقول لهم كيف تكفرون بالله ويقول لهم أ فتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ويقول وعد الله الكفار نار جهنم وأن يجبرهم على عدم الايمان ثم يقول فما لهم لا يؤمنون أو يجبرهم على الاعراض ثم يقول فما لهم عن التذكرة معرضين وكيف يجوز على العدل اللطيف الخبير أن يكلف العباد بالايمان وبسائر التكاليف المقررة في الشريعة ويواعدهم أن يعاقبهم على مخالفتها بأنواع العقوبات الشديدة ومع ذلك يجر هم على الكفر والمخالفة ولا يمكنهم من الايمان و الطاعة بل ليت شعري كيف نسبوا أفعال العباد بأسرها إلى الحكيم العليم وادعوا أنها صادرة منه وأنه الفاعل لها دون غيره مع أن فيها من القبائح الشنيعة ما لا يرضى أحدهم لان تنسب إليه فضلا عن غيرهم من أرباب العقول تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا و لعمري أنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ولقد جاءوا في مقالتهم هذه شيئا إذا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا واعتذار بعضهم في دفع شناعة التكليف بأن وجود الاختيار كاف في جواز التكليف وما يترتب عليه وإن لم يؤثر فمردود عليه بأن الاختيار الغير المؤثر مما لا يصلح أن يكون منشأ للذم و العقاب بالضرورة والمثال الذي ذكرناه من إيقاع العبد في الماء مجامع للاختيار الغير المؤثر ومع ذلك فالضرورة قاضية بقبح ذمه و عقابه الثالث النقض بأفعاله تعالى فإنه مختار في فعله بالاتفاق مع أن الشبهة المذكورة جارية فيه لأنه إما أن يكون فعله تعالى لازم الصدور عنه أو لا إلى آخر ما مر وأما ما يقال من أن فعله تعالى لمرجح إرادته وهي وإن كانت ممكنة إلا أنها قديمة فلا تحتاج إلى مرجح آخر لأن علة الحاجة هي الحدوث فمدفوع أما أولا فبأن علة الحاجة على ما هو الحق المحقق في محله هي الامكان ضرورة أن الشئ إذا كان في حد ذاته متساوي الوجود والعدم احتاج في اتصافه بكل منهما إلى علة ومنه يظهر أن وجود الممكن وعدمه حادثان ذاتيان كما أن وجوب الواجب وعدم الممتنع قديمان ذاتيان وأما ثانيا فبأن الإرادة على تقدير قدمها إن كانت بحيث لا يتوقف في التأثير على تعلق حادث لزم قدم المراد وإلا عاد الاشكال وقد يتفصى عن هذا بأن الإرادة تعلقت في الأزل بوجود زيد مثلا في زمن معين فيكون وجوده في ذلك الزمان بنفس ذلك التعلق القديم من غير توقف على أمر آخر ورد بأنه إن كان هذا التعلق علة تامة لزم أن يكون الحادث في هذا الزمان موجودا في الأزل وإن توقف على حضور هذا الزمان فلا يكون نفس التعلق كافيا في وجود الحادث وهو خلف وهذا الرد محل نظر وأما ثالثا فبأن الفعل بعد تعلق الإرادة القديمة به إن كان لازم الصدور عن الذات لزم الاضطرار وإلا لاحتاج إلى مرجح آخر فيتسلسل أو يلزم الاضطرار واعلم أن تقدمه تعالى على جميع مصنوعاته تقدم بالعلية وليس تقدما بالزمان لامتناع إحاطة الزمان به تعالى فنسبة خلق الأول إليه كنسبة خلق الاخر إليه كما أن
(٣٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 318 319 320 321 322 323 324 325 326 327 328 ... » »»