الافحام إذ يكفي في دفعه كون النظر مما لا بد منه عقلا في الوصول إلى الواجب لاتفاق القائلين بوجوب المقدمة والمنكرين له في أن ترك المقدمة لا يصلح عذرا في ترك الواجب المتوقف عليها و الضرورة أيضا قاضية بذلك وحينئذ فلا يتوقف فحينئذ الافحام على ثبوت وجوب المقدمة إذ يكفي في إلزامهم بالنظر أنه مما لا بد منه في الاتيان بالواجب واعترض ثانيا بمنع توقف الوجوب على النظر نظرا إلى ثبوته عندهم بالشرع نظر أو لم ينظر فلا يتم قوله ولا يجب حتى أنظر قالوا ولا يلزم منه تكليف الغافل لأنه يفهم التكليف و إن لم يصدق به وأنت خبير بأن هذا الكلام على تقدير صحته إنما يجري إذا أرادوا بقولهم لا يجب حتى ننظر أنه لا يجب علينا النظر واقعا حتى ننظر وأما إذا أرادوا أنه لا يجب النظر عندنا أي لا يثبت وجوبه عندنا حتى ننظر توجه منهم الافحام وانقطع على الرسول سبيل الالزام لالزامهم إياه بما لا سبيل له معه إلى الارشاد والهداية فيعجز عن القيام بوظائف الرسالة لقطعهم عليه طريق المحاجة من غير أن يكونوا سالكين مسلك الاعتساف أو عادلين عن طريقة الانصاف ولا يجدي في ذلك أنه يجب عليهم النظر واقعا مع أن القول بوجوب النظر حينئذ مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة من أنه لا تكليف إلا بعد قيام البينة إذ بعد تمسكهم بهذه المقالة لا يتبين عليهم وجوب النظر فكيف يثبت عليهم وأما على طريقة أصحابنا حيث يقولون بوجوب النظر عقلا دفعا لخوف الضرر فالبينة العقلية قائمة في حقهم وهي كافية في لزوم الحجة عليهم وتعلق التكليف بمثل هذا الجاهل المجوز لثبوت التكليف في حقه جائز عندنا عقلا ولهذا نقول باستحقاقه العقاب عقلا إذا قصر في النظر كيف لا ومنشأ خوف العقل بترك النظر إنما هو حكمه باستحقاق العقوبة على تقدير التقصير وصدق الدعوى نعم لو جزم ببراءته والحال هذه لشبهة كان معذورا إلا أن الفرض بعيد عادة وبالجملة فمن جوز ثبوت شريعة وجوز ثبوت تكاليف فيها ولم يجزم ببراءة ذمته عند صاحب الشريعة بترك الفحص فتحرى على ترك الفحص استحق العقوبة على تركها وترك التكاليف الثابتة فيها وإن لم يعلم بشئ منها وكان بمثابة العالم التارك لها فإن ترتب آثار التكليف على مثل هذا الجاهل مما لا يمنعه العقل وإنما يمنع من ترتبها على الجاهل الغافل أو المعتقد عدم ثبوت التكليف في حقه حال الجهل سواء كان عن شبهة كما في الفرض المذكور إن اتفق أو عن دليل كما في حقنا بالنسبة إلى بعض الموضوعات والاحكام الرابع أنهما لو لم يكونا بالعقل لزم جواز ظهور المعجزة على يد الكاذب والتالي باطل أما الملازمة فلان حكم العقل بعدم جواز ذلك ليس إلا لكونها فعله تعالى تصديقا للمدعى وأن تصديق الكاذب قبيح فيمتنع صدوره منه تعالى لعلمه وحكمته وغنائه فإذا بطل قبحه ثبت جوازه إذ لا دليل عليه غيره لا يقال يكفي في الامتناع قبحه في الشرع لأنا نقول بعد المنع من كفاية ذلك إنه يبتني على ثبوت الشرع فإثبات الشرع به دور وأما بطلان التالي فلانه يفضي إلى سد باب إثبات النبوات لابتناء معرفة صدق مدعيها بالمعجزة على امتناع ظهورها على يد الكاذب كما قررنا وأما ما يقال من أنه لا يلزم من جوازه عقلا وقوعه لأنا نقطع بخلافه من حيث قضاء العادة به فمتضح الفساد بل مباهتة وعناد إذ دعوى جريان العادة في المقام بحيث يوجب القطع مما لا يصدر عمن له أدنى درية ومسكة لأنه إن أريد العادة في المعجزة فالاشكال المذكور متجه على جميع مواردها فلا يسلم معجزة يثبت جريانها على يد صادق أصلا فضلا من ثبوتها متكررة بحيث يحصل بها العادة المفيدة للعلم وإن أريد العادة في غيرها فتأثيرها فيها على وجه لا يبتني على قاعدة التحسين و التقبيح غير معقول الخامس أنهما لو لم يكونا بالعقل لزم ارتفاع الوثوق بالمعاد بل وبسائر مواعيده تعالى والتالي باطل أما الملازمة فلان الاعتماد في ذلك إنما هو على إخباره تعالى وإخبار رسله فإذا بطل قاعدة التحسين والتقبيح تطرق احتمال الكذب إلى تلك الأخبار إذ لا مانع منه عند العقل سوى ما فيه من القبح الموجب لتنزه العالم الغني من ارتكابه فإذا ثبت عدم المانع جاز وقوعه عند العقل وهو المراد بالتالي وأما بطلانه فواضح للاجماع على كفر المرتاب في ذلك وأما الاستناد في إحالة ذلك إلى القبح الشرعي أو المنع العادي فقد عرفت فساده آنفا ويمكن تقرير هذا الدليل بوجه آخر وهو أنهما لو لم يكونا بالعقل لزم أن يكون التكليف بالايمان بصدقه تعالى وصدق النبي تكليفا بالمحال والتالي باطل أما الملازمة فلانه لا سبيل لنا إلى الاذعان بذلك بعد الاغماض عن قاعدة التحسين والتقبيح فنكون مكلفين بالعلم بما لا سبيل لنا إلى العلم به وهو المراد بالتالي وأما بطلانه فمعلوم بنص الكتاب والسنة بل و بإجماع الأمة إذ لا قائل بأن التكليف بالايمان بذلك في نفسه تكليف بغير المقدور لا يقال هذا الاشكال مشترك الورود بين القول بنفي التحسين والتقبيح وبين القول بثبوتهما بالوجوه والاعتبار إذ على هذا القول يجوز عند العقل أن يتحقق في الكذب مصلحة مرجحة لوقوعه رافعة لقبحه فإذا تطرق هذا الاحتمال إلى تلك الأخبار عاد الاشكال وربما أمكن تأييده بما ثبت عند أصحابنا الامامية من جواز التقية على الامام فإنها لا يختص عندهم بالافعال بل يجري في الأقوال أيضا فإذا جاز أن يقول الامام عبارة كاشفة عن الواقع على خلاف ما هو عليه مراعاة لمصلحة التقية جاز مثله في حق النبي بل و في حقه تعالى أيضا فكيف يحصل الوثوق بتلك الأخبار ومن هنا ذهب بعض الزنادقة من المنتسبين إلى الاسلام إلى أن الأخبار الواردة في الشريعة مما يتعلق بتعذيب الكفار والفساق بأسرها أخبار صورية غير مطابقة للواقع قصد بها مجرد التخويف لحفظ النظام و تكميل الأنام لأنا نقول كما أن ضرورة العقل قاضية بقبح الكذب في نفسه كذلك قاضية بعدم زوال هذه الصفة عنه ما
(٣١٩)