أعمال شاقة عرية عن المصالح الظاهرية عد ذلك في العرف والعادة حرجا وضيقا بخلاف ما لو كلفوا بتحصيلها بمزاولة أعمال شاقة مشتملة على مصالح ظاهرة كالجهاد المشتمل على إطفاء نائرة القوة الغضبية المنبعثة من المعادات الدينية مع ما فيه من تحصيل المنافع الدنيوية فإن الامر بمثل ذلك لا يعد حرجا بل ربما يعد المنع منه في حق كثير من الناس حرجا ومما يؤيد ما ذكرنا أن الشارع قد أباح ارتكاب بعض المحرمات عند خوف الضرر اليسير كتناول الماء المتنجس عند خوف حمى يوم مثلا بتركه ولم يبح بمثل ذلك الزنا لا سيما بالمحارم كالأم والأخت ومنها مجاهدة النفس في اختيار دين الحق ووجوبها معلوم بالضرورة وإن شق على النفس مشقة مفرطة بل قد يكون أشق من إتلاف النفس ولهذا كان بعض الكفار تمكن نفسه للقتل بعد الأسر ولا يختار الاسلام ليسلم منه ولولا صعوبة الاسلام عليه من جهة حمية الجاهلية عليه بحيث يستسهل دونه الموت مع ظهور ما فيه من المشقة الشديدة على النفس لما أصر على الكفر وقد حكى الله سبحانه عن بعض الكفار بقوله وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وقال بعض أهل النفاق النار ولا العار وكذا الحال في وجوب دفع النفقات والصدقات الواجبة على من تناهى في البخل وشح النفس فإنه قد يشق عليه دفعها مشقة لا يتحمل مثلها عادة ومع ذلك يثبت الوجوب في حقه والجواب أن المشقة الناشئة من جهة خبث الأخلاق ورذالتها غير معتبرة في المقام وإنما العبرة بالمشقة الناشئة من جهة ضعف البدن أو صعوبة العمل في نفسه لان هذا هو المتبادر من أدلة نفي العسر والحرج وحكمة الفرق بين الامرين ظاهرة فإن المشقة في الأول ناشئة من قبل المكلف لا من قبل التكليف ومن هنا يتجه أن يقال إن التكليف في الفرض المذكور لا يعد عرفا تكليفا بما فيه ضيق وحرج أ لا ترى أن السلطان لو ألزم من تناهى في البخل بدفع الخراج لم يعد عرفا مضيقا عليه وإن شق على المعطي لبخله مشقة لا يتحمل مثلها عادة ومن هذا البيان يظهر وجه نقض آخر عن تكليف من يشق عليه الجهاد فإن منشأه غلبة صفة الجبن عليه وهي صفة رذيلة لا عبرة بالمشقة الحاصلة من جهتها في المقام ومنها تمكين النفس من القصاص والحد في موارد وجوب التمكين منهما مع ما فيها من المشقة الشديدة بل هذه المشقة أشق من المشقة الشديدة الواردة على النفس من الاغتسال في البرد الشديد مع أنه يحكم بسقوط وجوبه حينئذ إذا كانت مشقة لا يتحمل مثلها عادة عملا بالقاعدة المذكورة ولهذا لو خير المكلف بينه وبين التمكين من القصاص مثلا آثره عليه والجواب أن المتبادر مما دل على نفي العسر والحرج نفيهما عن المكلفين ابتدأ دون ما يكون مستندا إليهم بسوء اختيارهم ومن هنا يتجه أن يقال بوجوب الغسل في الفرض المذكور إذا استند إلى تعمد المكلف سببه بعد دخول وقت التكليف نعم لو خاف الضرر على نفسه حينئذ بمرض أو موت سقط الوجوب عنه بل حرم عليه لا للقاعدة المذكورة بل لما دل على نفي الضرر وتحريم إلقاء النفس في التهلكة في غير ما استثني ثم الظاهر أن نفي الحرج لم يكن مطردا في جميع الأمم السابقة بل بعضهم كلفوا بالتكاليف الشاقة كما يدل عليه قوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم وقوله جل شأنه ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا وظاهر ما ورد من أن بني إسرائيل إذا أصابهم البول قرضوا أبدانهم بالمقاريض ولا ينافي ذلك أنهم كانوا أبسط منا جسما و أتم قوة فيخرج تلك التكاليف في حقهم عن كونها شاقة مع ما ورد في حديث المعراج من قول موسى عليه السلام لنبينا في عدد الصلوات إن أمتك لا تطيق ذلك فيشترك نفي الحرج بيننا وبينهم لان المستفاد من الآيات والاخبار أن تلك التكاليف كانت بالنسبة إليهم شاقة وليس في الرواية على تقدير تسليمها ما يدل على طاقة غير أمته صلى الله عليه وآله ذلك ولو سلم فلعل الوجه في عدم طاقتهم ذلك كونهم مكلفين بالمعاشرة وترك الرهبانية وتحصيل المعاش وذلك مناف غالبا للقيام بوظائف الصلوات الكثيرة بخلاف بعض الأمم السابقة فإن الرهبانية والعزلة كانت مشروعة في حقهم وربما كانت أرزاقهم تنزل عليهم من السماء وكانت أبدانهم أصبر على الشدائد والبلا وذلك لا ينافي المقصود ومن هنا يظهر أن العسر والحرج منفيان عن شريعتنا بالكلية كما قررناه أولا لا أنهما منفيان بالنسبة إلى أكثر الاحكام المقررة فيها وإلا لم يتحقق الفرق لثبوت مثله بالنسبة إلى تلك الشرائع أيضا إلا أن يفرق بشيوع الابتلاء بمواردهما في تلك الشرائع وعمومه للمكلفين بها وندرة مواردها بالنسبة إلى شريعتنا واختصاصه بنادر من المكلفين وهذا مما لا محيص عنه على تقدير المنع من بعض الأجوبة المتقدمة ولا ينافي نفي الحرج قاعدة التحسين والتقبيح أما على ما نختاره في ذلك فواضح وأما على ما هو المعروف فلجواز أن يتجرد ما يشتمل عليه عنهما واعلم أن الظاهر من أدلة نفي العسر والحرج انتفاؤهما في التكاليف الأصلية و العارضية بأسباب سائغة فلا يتعلق النذر وشبهه بما يشتمل عليهما حتى إنه لو خص مورده به لم ينعقد على الظاهر وكذا الحال في أمر من يجب طاعته شرعا كالمولى فليس له إجبار مملوكه بما فيه عسر و حرج إن كان مسلما أو بحكمه وأما الكافر والحيوان المملوك فالمتجه فيهما الجواز إن لم يكن هناك دليل آخر على المنع ثم اعلم أن نفي الحرج والضيق مختص بالايجاب والتحريم دون الندب و الكراهة لان الحرج إنما هو في الالزام لا الترغيب في الفعل لنيل الثواب إذا رخص في المخالفة ولهذا لا يحرم صوم الدهر غير العيدين و قيام تمام الليل والسير إلى الحج متسكعا وإيثار الغير
(٣٣٥)