تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٩٥
وليعلم أن مثقال ذرة في هذه الدار من الخير، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا، وما عليها في دار النعيم المقيم، من اللذات والشهوات. وإن الخير والبر في هذه الدنيا، مادة الخير والبر في دار القرار، وبذره وأصله وأساسه، فوا أسفاه على أوقات مضت في الغفلات، وواحسرتاه على أزمان انقضت في غير الأعمال الصالحات، وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها من نفسها. فلك الأهم الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك. * (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) * وفي الأمر بالاستغفار، بعد الحث على أفعال الطاعة والخير، فائدة كبيرة. وذلك أن العبد لا يخلو من التقصير فيما أمر به، إما أن لا يفعله أصلا أو يفعله على وجه ناقص. فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار، فإن العبد يذنب آناء الليل، والنهار، فمتى لم يتغمده الله برحمته، ومغفرته، فإنه هالك. تم تفسير سورة المزمل والحمد لله. سورة المدثر * (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر) * تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد، وأن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، بالاجتهاد في عبادات الله القاصرة والمتعدية، فتقدم هناك، الأمر له بالعبادات الفاضلة والقاصرة، والصبر على أذى قومه. وأمره هنا بالإعلان بالدعوة، والصدع بالإنذار، فقال: * (قم) *، أي: بجد ونشاط * (فأنذر) * الناس، بالأقوال والأفعال التي يحصل بها المقصود، وبيان حال المنذر عنه، ليكون ذلك أدعى لتركه. * (وربك فكبر) *، أي: عظمه بالتوحيد، واجعل قصدك في إنذارك وجه الله، وأن يعظمه العباد ويقوموا بعبادته. * (وثيابك فطهر) * يحتمل أن المراد بالثياب، أعماله كلها، وبتطهيرها تخليصها والنصح بها، وإيقاعها على أكمل الوجوه، وتنقيتها عن المبطلات والمفسدات، والمنقصات من شر ورياء، ونفاق، وعجب وتكبر وغفلة، وغير ذلك، مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته. ويدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة، فإن ذلك من تمام التطهير للأعمال خصوصا في الصلاة، التي قال كثير من العلماء: إن إزالة النجاسة عنها، شرط من شروطها: أي: من شروط صحتها. ويحتمل أن المراد بثيابه، الثياب المعروفة، وأنه مأمور بتطهيرها عن جميع النجاسات، في جميع الأوقات، خصوصا عند الدخول في الصلوات، وإذا كان مأمورا بطهارة الظاهر، فإن طهارة الظاهر، من تمام طهارة الباطن. * (والرجز فاهجر) * يحتمل أن المراد بالرجز: الأصنام، والأوثان، التي عبدت مع الله، فأمره بتركها والبراءة منها، ومما نسب إليها، من قول أو عمل. ويحتمل أن المراد بالرجز: أعمال الشر كلها، وأقواله، فيكون أمرا له بترك الذنوب، صغارها وكبارها، ظاهرها وباطنها، فيدخل في هذا الشرك فما دونه. * (ولا تمنن تستكثر) *، أي: لا تمنن على الناس، بما أسديت إليهم من النعم الدينية والدنيوية، فتستكثر بتلك المنة، وترى الفضل عليهم. بل أحسن إلى الناس، مهما أمكنك، وانس عندهم إحسانك، واطلب أجرك من الله تعالى، واجعل من أحسنت إليه وغيره، على حد سواء. وقد قيل: إن معنى هذا، ألا تعطي أحدا شيئا، وأنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه، فيكون هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم. * (ولربك فاصبر) *، أي: احتسب بصبرك، واقصد به وجه الله تعالى. فامتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، وبادر فيه، فأنذر الناس، وأوضح لهم بالآيات البينات، جميع المطالب الإلهية. وعظم الله تعالى، ودعا الخلق إلى تعظيمه، وطهر أعماله الظاهرة والباطنة من كل سوء. وهجر كل ما يعبد من دون الله، وما يعبد معه من الأصنام وأهلها، والشر وأهله. وله المنة على الناس بعد منة الله من غير أن يطلب عليهم
(٨٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 890 891 892 893 894 895 896 897 898 899 900 ... » »»