فأخذه الله أخذا وبيلا، أي: شديدا بليغا. * (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا) * أي: فكيف يحصل لكم الفكاك والنجاة يوم القيامة، اليوم المهول أمره، العظيم خطره، الذي يشيب الولدان، وتذوب له الجمادات العظام، فتتفطر السماء وتنتثر نجومها * (كان وعده مفعولا) *، أي: لا بد من قوعه، ولا حائل دونه. * (إن ه ذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) * أي: إن هذه الموعظة التي نبأ الله بها من أحوال يوم القيامة وأهوالها تذكرة يتذكر بها المتقون، وينزجر بها المؤمنون. * (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) *، أي: طريقا موصلا إليه، وذلك باتباع شرعه، فإنه قد أبانه كل البيان، وأوضحه غاية الإيضاح. وفي هذا دليل على أن الله تعالى أقدر العباد على أفعالهم، ومكنهم منها، لا كما يقوله الجبرية: إن أفعالهم تقع بغير مشيئتهم، فإن هذا خلاف النقل والعقل. * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطآئفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم ألن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) * ذكر الله في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل، وثلثيه، أو ثلثه، والأصل أن أمته أسوة له في الأحكام. وذكر في هذا الموضع، أنه امتثل ذلك، هو وطائفة معه من المؤمنين. ولما كان تحرير الوقت المأمور به، مشقة على الناس، أخبر أنه سهل عليهم في ذلك غاية التسهيل، فقال: * (والله يقدر الليل والنهار) *، أي: يعلم مقاديرهما، وما يمضي، ويبقى منهما. * (علم أن لن تحصوه) *، أي: لن تعرفوا مقداره من غير زيادة ولا نقص، لكون ذلك يستدعي انتباها، وعناء زائدا. * (فتاب عليكم) *، أي: فخفف عنكم، وأمركم بما تيسر عليكم، سواء زاد على المقدر، أو نقص. * (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) *، أي: مما تعرفون، ولا يشق عليكم، ولهذا كان المصلي بالليل، مأمورا بالصلاة، ما دام نشيطا، فإذا فتر، أو كسل، أو نعس، فليسترح، ليأتي الصلاة بطمأنينة وراحة. ثم ذكر بعض الأسباب المناسبة للتخفيف، فقال: * (علم أن سيكون منكم مرضى) * يشق عليهم صلاة نصف الليل، أو ثلثيه، أو ثلثه، فليصل المريض، ما يسهل عليه، ولا يكون أيضا مأمورا بالصلاة قائما، عند مشقة ذلك، بل لو شقت عليه الصلاة النافلة، فله تركها وله أجر ما كان يعمل صحيحا. * (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) *، أي: وعلم أن منكم مسافرين، يسافرون للتجارة، ليستغنوا عن الخلق، ويتكففوا عنهم، أي: فالمسافر، حاله تناسب التخفيف، ولهذا خفف عنه في صلاة الفرض، فأبيح له جمع الصلاتين في وقت واحد، وقصر الصلاة الرباعية. * (وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه) *، فذكر تعالى تخفيفين، تخفيفا للصحيح المقيم، يراعي فيه نشاطه، من غير أن يكلف عليه تحرير الوقت، بل يتحرى الصلاة الفاضلة، وهي ثلث الليل بعد نصفه الأول. وتخفيفا للمريض والمسافر، سواء كان سفره للتجارة، أو لعبادة، من جهاد، أو حج، أو غيره، فإنه يراعي ما لا يكلفه. فلله الحمد والثناء، حيث لم يجعل علينا في الدين من حرج، بل سهل شرعه، وراعى أحوال عباده، ومصالح دينهم، وأبدانهم ودنياهم. ثم أمر العباد بعبادتين، هما أم العبادات وعمادها: إقامة الصلاة، التي لا يستقيم الدين إلا بها، وإيتاء الزكاة التي هي برهان الإيمان، وبها تحصل المواساة للفقراء والمساكين، فقال: * (وأقيموا الصلاة) *، أي: بأركانها وحدودها، وشروطها، وجميع مكملاتها. * (وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا) *، أي: خالصا لوجه الله، بنية صادقة، وتثبيت من النفس، ومال طيب، ويدخل في هذا، الصدقة الواجبة والمستحبة. ثم حث على عموم الخير، وأفعاله، فقال: * (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا) *، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
(٨٩٤)