تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٩٩
ثم ذكر أحوال القيامة فقال: * (فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره) * أي: * (فإذا) * كانت القيامة * (برق البصر) * من الهول العظيم، وشخص فلا يطرف كما قال تعالى: * (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء) *. * (وخسف القمر) *، أي: ذهب نوره وسلطانه. * (وجمع الشمس والقمر) * وهما لم يجتمعا منذ خلقهما الله تعالى، فيجمع الله بينهما يوم القيامة، ويخسف القمر، وتكور الشمس، ويقذفان في النار، ليرى العباد، أنهما عبدان مسخران، وليرى من عبدهما، أنهم كانوا كاذبين. * (يقول الإنسان يومئذ) *، أي: حين يرى تلك القلاقل المزعجات: * (أين المفر) *؟ أي: أين الخلاص والفكاك، مما طرقنا وألم بنا؟ * (كلا لا وزر) *، أي: لا ملجأ لأحد دون الله. * (إلى ربك يومئذ المستقر) * لسائر العباد، فليس في إمكان أحد، أن يستتر أو يهرب عن ذلك الموضع، بل لا بد من إيقافه، ليجزى بعمله، ولهذا قال: * (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) *، أي: بجميع عمله الحسن والسيىء، في أول وقته وآخره، وينبأ بخبر لا ينكره. * (بل الإنسان على نفسه بصيرة) *، أي: شاهد ومحاسب. * (ولو ألقى معاذيره) * فإنها معاذير لا تقبل، بل يقرر بعمله، فيقر به، كما قال تعالى: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *. فالعبد وإن أنكر، أو اعتذر عما عمله، فإنكاره واعتذاره، لا يفيدانه شيئا، لأنه يشهد عليه سمعه وبصره، وجميع جوارحه بما كان يعمل، ولأن استعتابه، قد ذهب وقته، وزال نفعه: * (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون) *. * (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) * كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالوحي، وشرع في تلاوته، بادره النبي صلى الله عليه وسلم، من الحرص قبل أن يفرغ، وتلاه مع تلاوة جبريل إياه، فنهاه الله عن ذلك، وقال: * (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) *. وقال هنا: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) *، ثم ضمن له تعالى، أنه لا بد أن يحفظه ويقرأه، ويجمعه الله في صدره فقال: * (إن علينا جمعه وقرآنه) * فالحرص الذي في خاطرك، إنما الداعي له حذر الفوات والنسيان، فإذا ضمنه الله لك، فلا موجب لذلك. * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) *، أي: إذا أكمل جبريل ما يوحى إليك، فحينئذ اتبع ما قرأه فاقرأه. * (ثم إن علينا بيانه) *، أي: بيان معانيه، فوعده بحفظ لفظه، وحفظ معانيه، وهذا أعلى ما يكون، فامتثل صلى الله عليه وسلم لأدب ربه، فكان إذا تلا عليه جبريل القرآن بعد هذا، أنصت له، فإذا فرغ قرأه. وفي هذه الآية، أدب لأخذ العلم، أن لا يبادر المتعلم للعلم، قبل أن يفرغ المعلم من المسألة التي شرع فيها، فإذا فرغ منها، سأله عما أشكل عليه. وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرد أو الاستحسان، أن لا يبادر برده أو قبوله، قبل الفراغ من ذلك الكلام، ليتبين ما فيه من حق أو باطل، وليفهمه فهما يتمكن فيه من الكلام فيه على وجه الصواب. وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كما بين للأمة ألفاظ الوحي، فإنه قد بين لهم معانيه. * (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة) * أي: هذا الذي أوجب لكم الغفلة والإعراض عن وعظ الله وتذكيره أنكم * (تحبون العاجلة) * وتسعون فيما يحصلها، وفي لذاتها وشهواتها، وتؤثرونها على الآخرة، فتذرون العمل لها؛ لأن الدنيا نعيمها ولذاتها عاجلة، والإنسان مولع بحب العاجل، والآخرة متأخر ما فيها من النعيم المقيم، فلذلك غفلتم عنها، وتركتموها، كأنكم لم تخلقوا لها، وكأن هذه الدار هي دار القرار، التي تبذل فيها نفائس الأعمار، ويسعى لها آناء الليل والنهار، وبهذا انقلبت عليكم الحقيقة، وحصل من الخسار ما حصل. فلو آثرتم الآخرة على الدنيا، ونظرتم العواقب نظر البصير العاقل، لنجحتم، وربحتم ربحا لا خسار معه، وفزتم فوزا لا شقاء يصحبه. ثم ذكر ما يدعو إلى إيثار الآخرة، ببيان حال أهلها وتفاوتهم فيها، فقال في جزاء المؤثرين للآخرة على الدنيا: * (وجوه يومئذ ناضرة) *، أي: حسنة بهية، لها رونق ونور، مما هم فيه من نعيم القلوب، وبهجة النفوس، ولذة الأرواح. * (إلى ربها ناظرة) * أي: ينظرون إلى ربهم، على حسب مراتبهم. ومنهم
(٨٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 894 895 896 897 898 899 900 901 902 903 904 ... » »»