من ارتضى من رسول) *، أي: فإنه يخبره بما اقتضت حكمته، أن يخبره به. وذلك لأن الرسل، ليسوا كغيرهم، فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق، وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته، من غير أن تقربه الشياطين، فيزيدوا فيه أو ينقصوا، ولهذا قال: * (فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) *، أي: يحفظونه بأمر الله. * (ليعلم) * بذلك * (أن قد أبلغوا رسالات ربهم) * بما جعله لهم من الأسباب. * (وأحاط بما لديهم) *، أي: بما عندهم، وما أسروه وما أعلنوه. * (وأحصى كل شيء عددا) *. وفي هذه السورة فوائد عديدة: منها: وجود الجن، وأنهم مأمورون منهيون، ومجازون بأعمالهم، كما هو صريح في هذه السورة. ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجن، كما هو مبعوث إلى الإنس، فإن الله صرف نفرا من الجن، ليستمعوا ما يوحى إليه، ويبلغوا قومهم. ومنها: ذكاء الجن، ومعرفتهم بالحق، وأن الذي ساقهم إلى الإيمان هو ما تحققوه من هداية القرآن، وحسن أدبهم في خطابهم. ومنها: اعتناء الله برسوله، وحفظه لما جاء به. فحين ابتدأت بشائر نبوته، والسماء محروسة بالنجوم، والشياطين قد هربت من أماكنها، وأزعجت عن مراصدها، وأن الله رحم به أهل حمة ما يقدر لها قدر، وأراد بهم ربهم رشدا، فأراد أن يظهر من دينه وشرعه، ومعرفته في الأرض، ما تبتهج به القلوب، وتفرح به أولو الألباب، وتظهر به شعائر الإسلام، وينقمع به أهل الأوثان والأصنام. ومنها: شدة حرص الجن على استماعهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وتراكمهم عليه. ومنها: أن هذه السورة، قد اشتملت على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وبينت حالة الخلق، وأن كل أحد منهم لا يستحق من العبادة مثقال ذرة؛ لأن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، إذا كان لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا، بل ولا يملك لنفسه، علم أن الخلق كلهم كذلك، فمن الخطأ والظلم اتخاذ من هذا وصفه إلها آخر. ومنها: أن علوم الغيوب قد انفرد الله بعلمها، فلا يعلمها أحد من الخلق، إلا من ارتضاه واختصه بعلم شيء منها. تم تفسير سورة الجن والحمد لله رب العالمين. سورة المزمل * (يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا * إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا * إن لك في النهار سبحا طويلا * واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا * رب المشرق والمغرب لا إل ه إلا هو فاتخذه وكيلا * واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا * وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا) * المزمل: المتغطي بثيابه كالمدثر، وهذا الوصف، حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أكرمه الله برسالته، وابتدأه بإنزال وحيه بإرسال جبريل إليه، فرأى أمرا لم ير مثله، ولا يقدر على الثبات عليه إلا المرسلون، فاعتراه عند ذلك انزعاج، حين رأى جبريل عليه السلام، فأتى إلى أهله فقال: (زملوني زملوني) وهو ترعد فرائصه. ثم جاءه جبريل، فقال: (اقرأ)، فقال: (ما أنا بقارئ)، فغطه حتى بلغ منه الجهد، وهو يعالجه على القراءة، فقرأ صلى الله عليه وسلم. ثم ألقى الله عليه الثبات، وتابع عليه الوحي، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين. فسبحان الله، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها، ولهذا خاطبه الله بهذا الوصف، الذي وجد منه أول أمره. فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به، ثم أمره بالصبر على أذية قومه، ثم أمره بالصدع بأمره، وإعلان دعوتهم إلى الله. فأمره هنا بأشرف العبادات، وهي الصلاة، وبآكد الأوقات
(٨٩٢)