تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٩٣
وأفضلها، وهو قيام الليل. ومن رحمته به، أنه لم يأمره بقيام الليل كله، بل قال: * (قم الليل إلا قليلا) *. ثم قدر ذلك، فقال: * (نصفه أو انقص منه) *، أي: من النصف * (قليلا) * بأن يكون الثلث ونحوه * (أو زد عليه) *، أي: على النصف، فيكون نحو الثلثين. * (ورتل القرآن ترتيلا) * فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبر والتفكر، وتحريك القلوب به، والتعبد بآياته، والتهيؤ والاستعداد التام له. فإنه قال: * (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) *، أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل، أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه، وما كان بهذا الوصف، حقيق أن يتهيأ له، ويرتل، ويتفكر فيما يشتمل عليه. ثم ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل، فقال: * (إن ناشئة الليل) *، أي: الصلاة فيه بعد النوم * (هي أشد وطئا وأقوم قيلا) *، أي: أقرب إلى حصول مقصود القرآن، يتواطأ عليه القلب واللسان، وتقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره. وهذا بخلاف النهار، فإنه لا تحصل به هذه المقاصد، ولهذا قال: * (إن لك في النهار سبحا طويلا) *، أي: ترددا في حوائجك ومعاشك، يوجب اشتغال القلب، وعدم تفرغه التفرغ التام. * (واذكر اسم ربك) * شامل لأنواع الذكر كلها * (وتبتل إليه تبتيلا) *، أي: انقطع إليه، فإن الانقطاع إلى الله، والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وما يقرب إليه، ويدني من رضاه. * (رب المشرق والمغرب) * وهذا اسم جنس، يشمل المشارق والمغارب كلها، فهو تعالى رب المشارق والمغارب، وما يكون فيها من الأنوار، وما هي مصلحة له من العالم العلوي والسفلي، فهو رب كل شيء، وخالقه، ومدبره. * (لا إله إلا هو) *، أي: لا معبود إلا وجهه الأعلى، الذي يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم، والإجلال والتكريم، ولهذا قال: * (فاتخذه وكيلا) *، أي: حافظا ومدبرا لأمورك كلها. فلما أمره الله بالصلاة خصوصا، وبالذكر عموما، وبذلك تحصل للعبد ملكة قوية، في تحمل الأثقال، وفعل الشاق من الأعمال، أمره بالصبر، على ما يقوله المعاندون له ويسبونه، ويسبون ما جاء به، وأن يمضي على أمر الله، لا يصده عنه صاد، ولا يرده راد، وأن يهجرهم هجرا جميلا، وهو الهجر، حيث اقتضت المصلحة الهجر، الذي لا أذية فيه، بل يعاملهم بالهجر والإعراض عن أقوالهم التي تؤذيه، وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن. * (وذرني والمكذبين) *، أي: اتركني وإياهم، فسأنتقم منهم، وإن أمهلتهم، فلا أهملهم. وقوله: * (أولي النعمة) *، أي: أصحاب النعمة والغنى، الذي طغوا حين وسع الله عليهم من رزقه، وأمدهم من فضله كما قال تعالى: * (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) *. * (إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا) * ثم توعدهم بما عنده من العقاب، فقال: * (إن لدينا) * إلى * (مهلا) *. أي: إن عندنا * (أنكالا) *، أي: عذابا شديدا، جعلناه تنكيلا للذي لا يزال مستمرا على ما يغضب الله. * (وجحيما) *، أي: نارا حامية * (وطعاما ذا غصة) * وذلك لمرارته وبشاعته، وكراهة طعمه وريحه الخبيث المنتن. * (وعذابا أليما) *، أي: مرجعا مفظعا، وذلك * (يوم ترجف الأرض والجبال) * من الهول العظيم. * (وكانت الجبال) * الراسيات الصم الصلاب * (كثيبا مهيلا) *، أي: بمنزله الرمل المنهال المنتثر، ثم إنها تبس بعد ذلك، فتكون كالهباء المنثور. * (إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا) * يقول تعالى: احمدوا ربكم، على إرساله هذا النبي الأمي العربي البشير النذير، الشاهد على الأمة بأعمالهم، واشكروه، وقوموا بهذه النعمة الجليلة. وإياكم أن تكفروا، فتعصوا رسولكم، فتكونوا كفرعون، حين أرسل الله إليه موسى بن عمران، فدعاه إلى الله، وأمره بالتوحيد، فلم يصدقه، بل عصاه،
(٨٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 888 889 890 891 892 893 894 895 896 897 898 ... » »»