تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٨٣
حين أهلك الطاغين، واعتبروا بآياته الدالة على توحيده، ولهذا قال: * (لنجعلها) *، أي: الجارية، والمراد جنسها * (تذكرة) * تذكركم أول سفينة صنعت، وما قصتها، وكيف نجى الله عليها من آمن به، واتبع رسوله، وأهلك أهل الأرض كلها، فإن جنس الشيء مذكر بأصله. وقوله: * (وتعيها أذن واعية) * أي: يعقلها أولو الألباب، ويعرفون المقصود منها ووجه الآية بها. وهذا، بخلاف أهل الإعراض والغفلة، وأهل البلادة وعدم الفطنة، فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات الله، لعدم وعيهم عن الله، وتفكرهم بآياته. * (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) * لما ذكر تعالى ما فعله بالمكذبين لرسله، وكيف جازاهم، وعجل لهم العقوبة في الدنيا، وأن الله نجى الرسل وأتباعهم، كان هذا مقدمة للجزاء الأخروي، وتوفية الأعمال كاملة يوم القيامة. فذكر الأمور الهائلة التي تقع أمام يوم القيامة، وأن أول ذلك أنه ينفخ إسرافيل * (في الصور) * إذا تكاملت الأجساد نابتة. * (نفخة واحدة) * فخرجت الأرواح، فتدخل كل روح في جسدها، فإذا الناس قيام لرب العالمين. * (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة) *، أي: فتتت الجبال، واضمحلت، وخلطت بالأرض، ونسفت عليها، فكان الجميع قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، هذا ما يصنع بالأرض وما عليها. وأما ما يصنع بالسماء، فإنها تضطرب وتمور وتشقق ويتغير لونها، وتهي بعد تلك الصلابة والقوة العظيمة، وما ذاك إلا لأمر عظيم أزعجها، وكرب جسيم هائل، أوهاها وأضعفها. * (والملك) *، أي: الملائكة الكرام * (على أرجائها) *، أي: على جوانب السماء وأركانها، خاضعين لربهم، مستكينين لعظمته. * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * أملاك في غاية القوة، إذا أتى للفصل بين العباد والقضاء بينهم، بعدله وقسطه وفضله. ولهذا قال: * (يومئذ تعرضون) * على الله * (لا تخفى منكم خافية) * لا من أجسادكم وذواتكم، ولا من أعمالكم وصفاتكم، فإن الله تعالى عالم الغيب والشهادة. ويحشر العباد حفاة، عراة، غرلا، في أرض مستوية، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فحينئذ يجازيهم بما علموا، ولهذا ذكر كيفية الجزاء، فقال: * (فأما من أوتي كتابه) * إلى: * (الخالية) *. * (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هآؤم اقرؤا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية * كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية) * وهؤلاء هم أهل السعادة، يعطون كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم، تمييزا لهم، وتنويها بشأنهم، ورفعا لمقدارهم. ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور، ومحبة أن يطلع الخلق على ما من الله عليه به من الكرامة: * (هاؤهم اقرأوا كتابيه) *، أي: دونكم كتابي، فاقرأوه، فإنه يبشر بالجنات، وأنواع الكرامات، ومغفرة الذنوب، وستر العيوب. والذي أوصلني إلى هذه الحال، ما من الله به علي من الإيمان بالبعث والحساب، والاستعداد له، بالممكن من العلم، ولهذا قال: * (إني ظننت أني ملاق حسابيه) *، أي: أيقنت، فالظن هنا بمعنى اليقين. * (فهو في عيشة راضية) *، أي: جامعة لما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وقد رضوها، ولم يختاروا عليها غيرها. * (في جنة عالية) * المنازل والقصور، عالية المحل. * (قطوفها دانية) *، أي: ثمرها وجناها، من أنواع الفواكه، قريبة، سلهة التناول على أهلها، ينالها أهلها، قياما وقعودا ومتكئين. ويقول لهم إكراما: * (كلوا واشربوا) *، أي: من كل طعام لذيذ، وشراب شهي. * (هنيئا) *، أي: تاما كاملا، من غير مكدر، ولا منغص. وذلك الجزاء حاصل لكم * (بما أسلفتم في الأيام الخالية) * من الأعمال الصالحة، من صلاة، وصيام، وصدقة، وحج، وإحسان إلى الخلق، وذكر الله، وإنابة إليه، وترك الأعمال السيئة. فالأعمال جعلها الله سببا لدخول الجنة، ومادة لنعيمها، وأصلا لسعادتها. * (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يليتها كانت القاضية * ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه * خذوه فغلوه * ثم
(٨٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 878 879 880 881 882 883 884 885 886 887 888 ... » »»