تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٨٨
وحاصل هذا، أن الله وصف أهل السعادة والخير بهذه الأوصاف الكاملة، والأخلاق المرضية الفاضلة، من العبادات البدنية، كالصلاة، والمداومة عليها، والأعمال القلبية كخشية الله الداعية لكل خير، والعبادات المالية، والعقائد النافعة، والأخلاق الفاضلة، ومعاملة الله، ومعاملة خلقه، أحسن معاملة: من إنصافهم، وحفظ حقوقهم وأماناتهم، والعفة التامة بحفظ الفروج، عما يكرهه الله تعالى. * (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) * يقول تعالى، مبينا اغترار الكافرين: * (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين) *، أي: مسرعين * (عن اليمين وعن الشمال عزين) * أي: قطعا متفرقة وجماعات متنوعة، كل منهم بما لديه فرح. * (أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم) * أي سبب أطمعهم، وهم لم يقدموا سوى الكفر والجحود لرب العالمين، ولهذا قال: * (كلا) *، أي: ليس الأمر بأمانيهم، ولا إدراك ما يشتهون بقوتهم. * (إنا خلقناهم مما يعلمون) *، أي: من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، فهم ضعفاء، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة، ولا نشورا. * (فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون) * هذا إقسام منه تعالى بالمشارق والمغارب، للشمس والقمر والكواكب، لما فيها من الآيات الباهرات على البعث، وقدرته على تبديل أمثالهم، وهم بأعيانهم، كما قال تعالى: * (وننشئكم فيما لا تعلمون) *. * (وما نحن بمسبوقين) *، أي: ما أحد يسبقنا ويفوتنا ويعجزنا إذا أردنا أن نعيده، فإذا تقرر البعث والجزاء، واستمروا على تكذيبهم، وعدم انقيادهم لآيات الله. * (فذرهم يخوضوا ويلعبوا) *، أي: يخوضوا بالأقوال الباطلة، والعقائد الفاسدة، ويلعبوا بدينهم، ويأكلوا ويشربوا، ويتمتعوا * (حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) *، فإن الله قد أعد لهم فيه من النكال والوبال، ما هو عاقبة خوضهم ولعبهم. ثم ذكر حال الخلق حين يلاقون اليوم الذي يوعدون، فقال: * (يوم يخرجون من الأجداث) *، أي: القبور * (سراعا) * مجيبين لدعوة الداعي، مهطعين إليها. * (كأنهم إلى نصب يوفضون) *، أي: كأنهم إلى علم يؤمون ويقصدون، فلا يتمكنون من الاستعصاء على الداعي، ولا الالتواء عن نداء المنادي، بل يأتون أذلاء مقهورين، بين يدي رب العالمين. * (خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة) * وذلك أن الذلة والقلق، قد ملك قلوبهم، واستولى على أفئدتهم، فخشعت منهم الأبصار، وسكنت الحركات، وانقطعت الأصوات. * (ذلك) * الحال والمآل، هو * (اليوم الذي كانوا يوعدون) * ولا بد من الوفاء بوعد الله. تم تفسير سورة المعارج الحمد لله. سورة نوح * (إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم * قال يقوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون * يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون * قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعآئي إلا فرارا * وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إني دعوتهم جهارا * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا * ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا * قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا * ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا * مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا * وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا * رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا) * لم يذكر الله في هذه السورة، إلا قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه، وتكرار دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك. فأخبر تعالى أنه أرسل نوحا إلى قومه، رحمة بهم وإنذارا من عذاب أليم، خوفا من استمرارهم على كفرهم، فيهلكهم هلاكا أبديا، ويعذبهم عذابا سرمديا. فامتثل نوح عليه السلام لذلك، وابتدر لأمر الله، فقال: * (يا قوم إني لكم نذير مبين) *، أي: واضح النذارة بينها، وذلك لتوضيحه ما أنذر به، وما أنذر عنه، وبأي شيء تحصل النجاة، بين ذلك بيانا شافيا. فأخبرهم وأمرهم بأصل ذلك، فقال: * (أن اعبدوا الله واتقوه) * وذلك بإفراده تعالى بالعبادة والتوحيد، والبعد عن الشرك وطرقه، ووسائله، فإنهم إذا اتقوا الله، غفر ذنوبهم، وإذا غفر ذنوبهم حصل لهم النجاة من العذاب، والفوز بالثواب. * (ويؤخركم إلى أجل مسمى) *، أي: يمتعكم في هذه الدار، ويدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى، أي: مقدر البقاء في الدنيا، بقضاء الله وقدره، إلى وقت محدود، وليس المتاع أبدا، فإن الموت لا بد منه، ولهذا قال: * (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون) * كما كفرتم بالله، وعاندتم الحق، فلم يجيبوا لدعوته، ولا انقادوا لأمره، فقال شاكيا لربه: * (رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) *، أي: نفورا عن الحق وإعراضا، فلم يبق لذلك فائدة، لأن فائدة الدعوة أن يحصل جميع المقصود أو بعضه. * (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم) *، أي: لأجل أن يستجيبوا، فإذا استجابوا، غفرت لهم، وهذا محض مصلحتهم، ولكن أبوا، إلا تماديا على باطلهم، ونفورا عن الحق. * (جعلوا أصابعهم في آذانهم) * حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السلام. * (واستغشوا ثيابهم) *، أي: تغطوا بها غطاء يغشاهم، بعدا عن الحق، وبغضا له. * (وأصروا) * على كفرهم وشرهم * (واستكبروا) * على
(٨٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 883 884 885 886 887 888 889 890 891 892 893 ... » »»