بالعراء) *، أي: لطرح في العراء، وهي الأرض الخالية * (وهو مذموم) *، ولكن الله تغمده برحمته، فنبذ وهو ممدوح، وصارت حاله أحسن من حاله الأولى، ولهذا قال: * (فاجتباه ربه) *، أي: اختاره ونقاه من كل كدر. * (فجعله من الصالحين) *، أي: الذين صلحت أعمالهم وأقوالهم، ونياتهم وأحوالهم. فامتثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمر الله، فصبر لحكم ربه صبرا لا يدركه أحد من العالمين. فجعل الله له العاقبة * (والعاقبة للمتقين) * ولم يبلغ أعداؤه فيه إلا ما يسوؤهم. حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه بأبصارهم، أي: يصيبوه بأعينهم، من حسدهم وحنقهم وغيظهم. هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعلي، والله حافظه وناصره. وأما الأذى القولي، فيقولون فيه أقوالا، بحسب ما توحي إليهم قلوبهم، فيقولون تارة: (مجنون)، وتارة: (شاعر)، وتارة: (ساحر). قال تعالى: * (وما هو إلا ذكر للعالمين) *، أي: وما هذا القرآن العظيم، والذكر الحكيم، إلا ذكر للعالمين، يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم، والحمد لله. تم تفسير سورة القلم بمن الله وكرمه. سورة الحاقة * (الحاقة * ما الحآقة * ومآ أدراك ما الحاقة * كذبت ثمود وعاد بالقارعة * فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية * وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية) * * (الحاقة) * من أسماء يوم القيامة، لأنها تحق وتنزل بالخلق، وتظهر فيها حقائق الأمور، ومخبآت الصدور. فعظم تعالى شأنها وفخمه، بما كرره من قوله: * (الحاقة * ما الحاقة * وما أدراك ما الحاقة) * فإن لها شأنا عظيما، وهولا جسيما. ثم ذكر نموذجا من أحوالها الموجودة في الدنيا المشاهدة فيها، وهو ما أحله من العقوبات البليغة بالأمم العاتية، فقال: * (كذبت ثمود) * وهم: القبيلة المشهورة، سكان الحجر، الذين أرسل الله إليهم رسوله صالحا عليه السلام، ينهاهم عما هم عليه من الشرك، ويأمرهم بالتوحيد، فردوا دعوته، وكذبوه، وكذبوا ما أخبر به من يوم القيامة، وهي: القارعة التي تقرع الخلق بأهوالها. وكذلك عاد الأولى، سكان حضرموت، حين بعث الله إليهم رسوله هودا عليه الصلاة والسلام، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فكذبوه، وأنكروا ما أخبر به من البعث، فأهلك الله الطائفتين بالهلاك العاجل: * (فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية) * وهي: الصيحة العظيمة الفظيعة، التي قطعت قلوبهم، وزهقت لها أرواحهم فأصبحوا موتى، لا يرى إلا مساكنهم وجثثهم. * (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر) *، أي: قوية شديدة الهبوب، لها صوت أبلغ من صوت الرعد القاصف، * (عاتية) *، أي: عتت على خزانها، على قول كثير من المفسرين، أو عتت على عاد، وزادت على الحد كما هو الصحيح. * (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) *، أي: نحسا وشرا فظيعا عليهم، فدمرتهم وأهلكتهم. * (فترى القوم فيها صرعى) *، أي: هلكى موتى، * (كأنهم أعجاز نخل خاوية) *، أي: كأنهم جذوع النخل، التي قطعت رءوسها الخاوية، الساقط بعضها على بعض. * (فهل ترى لهم من باقية) *، وهذا استفهام بمعنى النفي المتقرر. * (وجآء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية * إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) * أي: وكذلك غير هاتين الأمتين الطاغيتين، عاد وثمود، جاء غيرهم من الطغاة العتاة، كفرعون مصر، الذي أرسل الله إليه عبده ورسوله، موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وأراهم من الآيات البينات، ما تيقنوا بها الحق، ولكن جحدوا وكفروا، ظلما وعلوا، وجاء من قبله من المكذبين. * (والمؤتفكات) *، أي: قرى قوم لوط، الجميع جاءوا * (بالخاطئة) *، أي: بالفعلة الطاغية، وهو الكفر والتكذيب، والظلم والمعاندة، وما انضم إلى ذلك من أنواع المعاصي والفسوق. * (فعصوا رسول ربهم) * وهذا اسم جنس، أي: كل من هؤلاء كذبوا الرسول، الذي أرسله الله إليهم. * (فأخذهم) * (الله جميعا) * (أخذة رابية) *، أي: زائدة على الحد والمقدار، الذي يحصل به هلاكهم. ومن جملة هؤلاء، قوم نوح أغرقهم الله في الطوفان * (لما طغى الماء) * على وجه الأرض، علا على مواضعها الرفيعة. وامتن الله على الخلق الموجودين بعدهم أن حملهم * (في الجارية) *، وهي السفينة: في أصلاب آبائهم وأمهاتهم، الذين نجاهم الله. فاحمدوا الله واشكروا الذي نجاكم
(٨٨٢)