النعيم والعيش السليم في جوار أكرم الأكرمين، وأن حكمته تعالى، لا تقتضي أن يجعل المتقين القانتين لربهم، المنقادين لأوامره، المتبعين مراضيه، كالمجرمين الذي أوضعوا في معاصيه، والكفر بآياته، ومعاندة رسله، ومحاربه أوليائه. وأن من ظن أنه يسويهم في الثواب، فإنه قد أساء الحكم، وأن حكمه باطل، ورأيه فاسد. وأن المجرمين إذا ادعوا ذلك، فليس لهم مستند، لا كتاب فيه يدرسون ويتلون، أنهم من أهل الجنة، وأن لهم ما طلبوا وتخيروا. وليس لهم عند الله عهد ويمين بالغة إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون وليس لهم شركاء وأعوان على إدراك ما طلبوا، فإن كان لهم شركاء وأعوان، فليأتوا بهم، إن كانوا صادقين. ومن المعلوم أن جميع ذلك منتف، فليس لهم كتاب، ولا لهم عهد عند الله في النجاة، ولا لهم شركاء يعينونهم، فعلم أن دعواهم باطلة فاسدة. وقوله: * (سلهم أيهم بذلك زعيم) *، أي: أيهم الكفيل بهذه الدعوى التي تبين بطلانها، فإنه لا يمكن أحدا، أن يتصدر بها، ولا يكون زعيما فيها. * (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) * أي: إذا كان يوم القيامة، وانكشف فيه من القلاقل والزلازل والأهوال، ما لا يدخل تحت الوهم، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده، ومجازاتهم، فكشف عن ساقه الكريمة، التي لا يشبهها شيء، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته، ما لا يمكن التعبير عنه، فحينئذ يدعون إلى السجود لله. فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجدون لله، طوعا واختيارا، ويذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فلا يقدرون على السجود، وتكون ظهورهم كصياصي البقر، لا يستطيعون الانحناء. وهذا الجزاء من جنس عملهم، فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود لله، وتوحيده وعبادته، وهم سالمون، لا علة فيهم، فيستكبرون عن ذلك ويأبون، فلا تسأل يومئذ عن حالهم، وسوء مآلهم، فإن الله سخط عليهم، وحقت عليهم كلمة العذاب، وتقطعت أسبابهم، ولم تنفعهم الندامة والاعتذار يوم القيامة. ففي هذا ما يزعج القلوب عن المقام على المعاصي، ويوجب التدارك مدة الإمكان. * (فذرني ومن يكذب به ذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين * أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون * أم عندهم الغيب فهم يكتبون * فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم * لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعرآء وهو مذموم * فاجتباه ربه فجعله من الصالحين * وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين) * أي: دعني والمكذبين بالقرآن العظيم، فإن علي جزاءهم، ولا تستعجل لهم، * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) * فنمدهم بالأموال والأولاد، ونمدهم في الأرزاق والأعمال، ليغتروا، ويستمروا على ما يضرهم، وهذا من كيد الله لهم، وكيد الله لأعدائه متين قوي، يبلغ من ضررهم وعقوبتهم كل مبلغ. * (أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون) *، أي: ليس لنفورهم عنك، وعدم تصديقهم لك، سبب يوجب لهم ذلك، فإنك تعلمهم، وتدعوهم إلى الله، لمحض مصلحتهم، من غير أن تصيبهم من أموالهم مغرما، يثقل عليهم. * (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) * ما كان عندهم من الغيوب، وقد وجدوا أنهم على حق، وأن لهم الثواب عند الله. فهذا أمر ما كان، وإنما كانت حالهم، حال معاند ظالم. فلم يبق إلا الصبر لأذاهم، والتحمل لما يصدر منهم، والاستمرار على دعوتهم، ولهذا قال: * (فاصبر لحكم ربك) *، أي: لما حكم به، شرعا وقدرا، فالحكم القدري، يصبر على المؤذى منه، ولا يتلقى بالسخط والجزع، والحكم الشرعي، يقابل بالقبول والتسليم، والانقياد لأمره. وقوله: * (ولا تكن كصاحب الحوت) * وهو يونس بن متى، عليه الصلاة والسلام. أي: ولا تشابهه في الحالالتي أوصلته وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت، وهو عدم صبره على قومه، الصبر المطلوب منه، وذهابه مغاضبا لربه، حتى ركب البحر، فاقترع أهل السفينة حين ثقلت بأهلها، أيهم يلقون لكي تخف بهم، فوقعت القرعة عليه، فالتقمه الحوت وهو مليم. وقوله: * (إذ نادى وهو مكظوم) *، أي: وهو في بطنها قد كظمت عليه، أو نادى وهو مغتم مهتم، فقال: * (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) *. فاستجاب الله له، وقذفته الحوت من بطنها بالعراء، وهو سقيم، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، ولهذا قال هنا: * (لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ
(٨٨١)