تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٧٧
وأخفى) *. ومن معاني اللطيف، أنه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان، من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر، من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من العبد على بال، حتى إنه يذيقه المكاره، ليوصله بها، إلى المحاب الجليلة، والمطالب النبيلة. * (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) * أي: هو الذي سخر لكم الأرض، وذللها، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم، من غرس وبناء، وحرث، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية، والبلدان الشاسعة. * (فامشوا في مناكبها) *، أي: لطلب الرزق والمكاسب. * (وكلوا من رزقه وإليه النشور) *، أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانا، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة، تبعثون بعد موتكم، وتحشرون إلى الله، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة. * (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير * ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير) * هذا تهديد ووعيد، لمن استمر في طغيانه وتعديه، وعصيانه الموجب للنكال، وحلول العقوبة، فقال: * (أأمنتم من في السماء) * وهو الله تعالى، العالي على خلقه. * (أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور) * بكم وتضطرب، حتى تهلكوا وتتلفوا. * (أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) *، أي: عذابا من السماء، يحصبكم، وينتقم الله منكم * (فستعلمون كيف نذير) *، أي: كيف يأتيكم ما أنذرتكم به الرسل والكتب. فلا تحسبوا أن أمنكم من أن يعاقبكم بعقاب من الأرض ومن السماء ينفعكم، فستجدون عاقبة أمركم، سواء طال عليكم الأمد أو قصر. فإن من قبلكم، كذبوا كما كذبتم، فأهلكهم الله تعالى، فانظروا كيف إنكار الله عليهم، عاجلهم بالعقوبة الدنيوية قبل عقوبة الآخرة، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم. * (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحم ن إنه بكل شيء بصير) * وهذا عتاب وحث على النظر إلى حالة الطير، التي سخرها الله، وسخر لها الجو والهواء، تصف فيه أجنحتها للطيران، وتقبضها للوقوع، فتظل سابحة في الجو، مترددة فيه، بحسب إرادتها وحاجتها. * (ما يمسكهن إلا الرحمن) * فإنه الذي سخر لهن الجو، وجعل أجسادها وخلقتها، في حالة مستعدة للطيران. فمن نظر في حالة الطير، واعتبر فيها، دلته على قدرة الباري، وعنايته الربانية، وأنه الواحد الأحد، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. * (إنه بكل شيء بصير) *، فهو المدبر لعباده، بما يليق بهم، وتقتضيه حكمته. * (أمن ه ذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحم ن إن الكافرون إلا في غرور * أمن ه ذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور) * يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره، المعرضين عن الحق: * (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) *، أي: ينصركم، إذا أراد الرحمن بكم سوءا، فيدفعه عنكم؟ أي: من الذي ينصركم على أعدائكم غير الرحمن؟ فإنه تعالى هو الناصر المعز المذل، وغيره من الخلق لو اجتمعوا على نصر عبد، لم ينفعوه بمثقال ذرة، على أيدي أي عدو كان. فاستمرار الكافرين على كفرهم، بعد أن علموا أنه لا ينصرهم أحد من دون الرحمن، غرور وسفه. * (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) *، أي: الرزق كله من الله، فلو أمسك عنكم الرزق، فمن الذي يرسله لكم؟ فإن الخلق لا يقدرون على رزق أنفسهم، فكيف بغيرهم؟ فالرزاق المنعم، الذي لا يصيب العباد نعمة إلا منه، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة. ولكن الكافرين * (لجوا) *، أي: استمروا * (في عتو) *، أي: قسوة وعدم لين للحق * (ونفور) *، أي: شرود عن الحق. * (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم) * أي: أي الرجلين أهدى؟ من كان تائها في الضلال، غارقا في الكفر قد انتكس قلبه، فصار الحق عنده باطلا، والباطل حقا؟ أو من كان عالما بالحق، مؤثرا له، عاملا يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله، وجميع أحواله؟ فبمجرد النظر إلى حال الرجلين، يعلم الفرق بينهما، والمهتدي من الضال منهما، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال. * (قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون * قل هو
(٨٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 872 873 874 875 876 877 878 879 880 881 882 ... » »»