براءة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مما نسبه إليه أعداؤه من الجنون، فنفى عنه ذلك بنعمة ربه عليه، وإحسانه، حيث من عليه بالعقل الكامل، والرأي الجزل، والكلام الفصل، الذي هو أحسن ما جرت به الأقلام، وسطره الأنام، وهذا هو السعادة في الدنيا. ثم ذكر سعادته في الآخرة، فقال: * (وإن لك لأجرا غير ممنون) *، أي: لأجرا عظيما، كما يفيده التنكير، غير مقطوع، بل هو دائم مستمر. وذلك لما أسلفه النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكاملة، والهداية إلى كل خير. ولهذا قال: * (وإنك لعلى خلق عظيم) *، أي: علي به، مستعل بخلقك الذي من الله عليك به. وحاصل خلقه العظيم، ما فسرته به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمن سألها عنه، فقالت: (كان خلقه القرآن)، وذلك نحو قوله تعالى: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) *، * (فبما رحمة من الله لنت لهم) * الآية، * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) * الآية. وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، والآيات الحاثات على كل خلق جميل، فكان له منها، أكملها وأجلها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا. فكان سهلا لينا، قريبا من الناس، مجيبا لدعوة من دعاه، قاضيا لحاجة من استقضاه، جابرا لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائبا. وإذا أراد أصحابه منه أمرا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم. وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسا، إلا أتم عشرة وأحسنها. فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إليه غاية الإحسان ويحتمله غاية الاحتمال. فلما أنزل الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في أعلى المنازل، وكان أعداؤه ينسبون إليه أنه مجنون مفتون، قال: * (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون) *، وقد تبين أنه أهدى الناس، وأكملهم لنفسه ولغيره. وأن أعداءه أضل الناس، وشر الناس للناس، وأنهم الذين فتنوا عباد الله، وأضلوهم عن سبيله، وكفى بعلم الله بذلك، فإنه المحاسب المجازي. * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) *، وهذا فيه تهديد للضالين، ووعد للمهتدين، وبيان لحكمة الله، حيث كان يهدي من يصلح للهداية دون غيره. * (فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم) * يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (فلا تطع المكذبين) * الذين كذبوك، وعاندوا الحق، فإنهم ليسوا أهلا لأن يطاعوا، لأنهم لا يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم، وهم لا يريدون إلا الباطل، فالمطيع لهم مقدم على ما يضره، وهذا عام في كل مكذب، وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب، وإن كان السياق في شيء خاص، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم، ويسكتوا عنه، ولهذا قال: * (ودوا) *، أي: المشركون * (لو تدهن) *، أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول، أو الفعل، أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه. * (فيدهنون) *، ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره، نقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه. * (ولا تطع كل حلاف) *، أي: كثير الحلف، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كذاب. ولا يكون كذابا، إلا وهو * (مهين) *، أي: خسيس النفس، ناقص الحكمة، ليس له رغبة في الخير، بل إرادته في شهوات نفسه الخسيسة. * (هماز) * أي: كثير العيب للناس والطعن فيهم، بالغيبة والاستهزاء، وغير ذلك. * (مشاء بنميم) *، أي: يمشي بين الناس بالنميمة، وهو: نقل كلام بعض الناس لبعض، لقصد الإفساد بينهم، وإيقاع العداوة والبغضاء. * (مناع للخير) * الذي يلزمه القيام به من النفقات الواجبة والكفارات والزكوات وغير ذلك، * (معتد) * على الخلق يظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم * (أثيم) *، أي: كثير الإثم والذنوب المتعلقة في حق الله * (عتل بعد ذلك) * أي: غليظ شرس الخلق قاس، غير منقاد * (زنيم) * أي: دعي، ليس له أصل ولا مادة
(٨٧٩)