تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٤٩
وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى، فيصعد، فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا، فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه. وجاء الوحي على الفور إليه من ربه، بما هموا به. فنهض مسرعا، فتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه، فقالوا: نهضت، ولم نشعر بك. فأخبرهم بما همت يهود به. وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشرا، فمن وجدت بعد ذلك ضربت عنقه). فأقاموا أياما يتجهزون، وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي بن سلول: (أن لا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين، يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم، وتنصركم قبيلة قريظة وحلفاؤكم من غطفان). وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونهضوا إليهم، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء. وأقاموا على حصونهم يرمون بالنبال والحجارة. واعتزلتهم قريظة، وخانهم ابن أبي، وحلفاؤهم من غطفان، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطع نخلهم وحرق، فأرسلوا إليه: نحن نخرج من المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأموال والسلاح. وكانت بنو النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه، ومصالح المسلمين، ولم يخمسها، لأن الله فاءها عليه، ولم يوجف المسلمون عليها، بخيل ولا ركاب، وأجلاهم إلى خيبر، وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم، واستولى على أرضهم وديارهم، وقبض السلاح، فوجد من السلاح خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا. هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل السير. * (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم * هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يأولي الأبصار * ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار * ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشآق الله فإن الله شديد العقاب * ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين * ومآ أفآء الله على رسوله منهم فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ول كن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير * ما أفآء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنيآء منكم ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب * للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أول ئك هم الصادقون * والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ممآ أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأول ئك هم المفلحون * والذين جآءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنآ إنك رؤوف رحيم * ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون * لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون * لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون * كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم * كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهمآ أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين) * فافتتح تعالى هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض، تسبح بحمد ربها، وتنزهه عما لا يليق بجلاله، وتعبده، وتخضع لعظمته، لأنه العزيز الذي قد قهر كل شيء، فلا يمتنع عليه شيء، ولا يستعصي عليه عسير. الحكيم في خلقه وأمره، فلا يخلق شيئا عبثا، ولا يشرع ما لا مصلحة فيه، ولا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته. ومن ذلك نصره لرسوله صلى الله عليه وسلم، على الذين كفروا من أهل الكتاب، من بني النضير، حين غدروا برسوله، فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم، التي ألفوها وأحبوها. وكان إخراجهم منها أول حشر وجلاء، كتبه الله عليهم على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، ودلت الآية الكريمة أن لهم حشرا وجلاء غير هذا. فقد وقع حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر، ثم عمر رضي الله عنه، أخرج بقيتهم منها. * (ما ظننتم) * أيها المسلمون * (إن يخرجوا) * من ديارهم، لحصانتها، ومنعتها، وعزهم فيها. * (وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله) * فأعجبوا بها، وغرتهم، وحسبوا أنها لا ينالون بها، ولا يقدر عليها أحد، وقدر الله وراء ذلك كله، لا تغني عنه الحصون والقلاع، ولا تجدي فيه القوة والدفاع. ولهذا قال: * (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) *، أي: من الأمر والباب، الذي لم يخطر ببالهم، أن يؤتوا منه. وهو أنه تعالى * (قذف في قلوبهم الرعب) * وهو الخوف الشديد، الذي هو جند الله الأكبر، الذي لا ينفع معه عدد ولا عدة، ولا قوة ولا شدة. فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل، هو الحصون التي تحصنوا بها، واطمأنت نفوسهم إليها، ومن وثق بغير الله فهو مخذول، ومن ركن إلى غير الله، كان وبالا عليه. فأتاهم أمر سماوي، نزل على قلوبهم، التي هي محل الثبات والصبر، أو الخور والضعف، فأزال قوتها وشدتها، وأورثها ضعفا وخورا وجبنا، لا حيلة لهم في دفعه، فصار ذلك عونا عليهم، ولهذا قال: * (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) *، وذلك أنهم صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما حملت الإبل. فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم، التي استحسنوها، وسلطوا المؤمنين، بسبب بغيهم على إخراب ديارهم، وهدم حصونهم، فهم الذين جنوا على أنفسهم، وصاروا أكبر عون عليها. * (فاعتبروا يا أولي الأبصار) *، أي: البصائر النافذة ، والعقول الكاملة، فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع الله في المعاندين للحق، المتبعين لأهوائهم، الذين لم تنفعهم
(٨٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 844 845 846 847 848 849 850 851 852 853 854 ... » »»