تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٤٧
تعملون) * يأمر تعالى المؤمنين بالصدقة، أمام مناجاة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تأديبا لهم، وتعليما، وتعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا التعظيم خير للمؤمنين وأطهر. أي: بذلك يكثر خيركم وأجركم، وتحصل لكم الطهارة من الأدناس، التي من جملتها ترك احترام الرسول صلى الله عليه وسلم، والأدب معه بكثرة المناجاة التي لا ثمرة تحتها، فإنه إذا أمر بالصدقة بين يدي مناجاته، صار هذا ميزانا، لمن كان حريصا على العلم والخير، فلا يبالي بالصدقة. ومن لم يكن له حرص ولا رغبة في الخير، وإنما مقصوده مجرد كثرة الكلام، فينكف بذلك عن الذي يشق على الرسول، هذا في الواجد للصدقة. وأما الذي لا يجد الصدقة، فإن الله لم يضيق عليه الأمر، بل عفا عنه وسامحه، وأباح له المناجاة بدون تقديم صدقة لا يقدر عليها. ثم لما رأى تعالى شفقة المؤمنين، ومشقة الصدقات عليهم، عند كل مناجاة، سهل الأمر عليهم، ولم يؤاخذهم بترك الصدقة بين يدي المناجاة وبقي التعظيم لرسول والاحترام بحاله، لم ينسخ؛ لأن هذا من باب المشروع لغيره، ليس مقصودا لنفسه وإنما المقصود هو الأدب مع الرسول والإكرام له. وأمرهم تعالى أن يقوموا بالمأمورات الكبار المقصود بنفسها، فقال: * (فإذ لم تفعلوا) *، أي: لم يهن عليكم تقديم الصدقة، ولا يكفي هذا فإنه ليس من شرط الأمر، أن يكون هينا على العبد، ولهذا قيده بقوله: * (وتاب الله عليكم) *، أي: عفا لكم عن ذلك. * (فأقيموا الصلاة) * بأركانها وشروطها، وجميع حدودها، ولوازمها. * (وآتوا الزكاة) * المفروضة في أموالكم إلى مستحقيها. وهاتان العبادتان، هما أم العبادات البدنية والمالية، فمن قام بهما على الوجه الشرعي، فقد قام بحقوق الله، وحقوق عباده، ولهذا قال بعده: * (وأطيعوا الله ورسوله) *، وهذا أشمل ما يكون من الأوامر. فيدخل في ذلك طاعة الله وطاعة رسوله بامتثال أوامرهما، واجتناب نواهيهما، وتصديق ما أخبرا به، والوقوف عند حدود الشرع. والعبرة في ذلك على الإخلاص والإحسان، فلهذا قال: * (والله خبير بما تعملون) * فيعلم تعالى أعمالهم، وعلى أي وجه صدرت، فيجازيهم على حسب علمه بما في صدورهم. * (ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون * أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين * لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أول ئك أصحاب النار هم فيها خالدون * يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون * استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أول ئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) * يخبر تعالى عن شناعة حال المنافقين الذين يتولون الكافرين، من اليهود والنصارى وغيرهم ممن غضب الله عليهم، ونالوا من لعنة الله أوفى نصيب، وأنهم ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين، * (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) *. فليسوا مؤمنين ظاهرا وباطنا لأن باطنهم مع الكفار، ولا مع الكفار ظاهرا وباطنا لأن ظاهرهم مع المؤمنين، وهذا وصفهم الذي نعتهم الله به، والحال أنهم يحلفون على الذي هو الكذب، فيحلفون أنهم مؤمنون، والحال أنهم ليسوا مؤمنين. فجزاء هؤلاء الخونة الفجرة الكذبة، أن الله أعد لهم عذابا شديدا، لا يقادر قدره، ولا يعلم وصفه، وإنهم ساء ما كانوا يعملون، حيث عملوا بما يسخط الله، ويوجب لهم العقوبة واللعنة. * (اتخذوا أيمانهم جنة) *، أي: ترسا ووقاية، يتقون بها من لوم الله ورسوله والمؤمنين، فبسبب ذلك، صدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، وهو الصراط الذي من سلكه، أفضى به إلى جنات النعيم، ومن صد عنه، فليس إلا الصراط الموصل إلى الجحيم. * (فلهم عذاب مهين) * حيث إنهم لما استكبروا عن الإيمان بالله، والانقياد لآياته، أهانهم بالعذاب السرمدي، الذي لا يفتر عنهم ساعة، ولا هم ينظرون. * (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) *، أي: لا تدفع عنهم شيئا من العذاب، ولا تحصل لهم قسطا من الثواب. * (أولئك أصحاب النار) * الملازمون لها، الذين لا يخرجون عنها. * (هم فيها خالدون) * ومن عاش على شيء، مات عليه. فكما أن المنافقين في الدنيا يموهون على
(٨٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 842 843 844 845 846 847 848 849 850 851 852 ... » »»