تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٦٠
الشمس بفيه ليطفئها، فلا على مرادهم حصلوا، ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها. ثم ذكر سبب الظهور والانتصار للدين الإسلامي، الحسي والمعنوي فقال، * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) *، أي: بالعلم النافع، والعمل الصالح. بالعلم: الذي يهدي إلى الله، وإلى دار كرامته، ويهدي لأحسن الأعمال والأخلاق، ويهدي إلى صمصالح الدنيا والآخرة. * (ودين الحق) *، أي: الدين الذي يدان به، ويتعبد لرب العالمين الذي هو حق وصدق، لا نقص فيه، ولا خلل يعتريه، بل أوامره غذاء القلوب والأرواح، وراحة الأبدان. وترك نواهيه سلامة من الشر والفساد، فما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، أكبر دليل وبرهان على صدقه، وهو برهان باق، ما بقي الدهر، كلما ازداد العاقل تفكرا، ازداد به فرحا وتبصرا. * (ليظهره على الدين كله) *، أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، ويظهر أهله القائمين به، بالسيف والسنان. فأما نفس الدين، فهذا الوصف، ملازم له في كل وقت، فلا يمكن أن يغالبه مغالب، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه، وصار له الظهور والقهر، وأما المنتسبون إليه، فإنهم إذا قاموا به، واستناروا بنوره، واهتدوا بهديه، في مصالح دينهم ودنياهم، فكذلك لا يقوم لهم أحد، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان. وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه، لم ينفعهم ذلك، وصار إهمالهم له، سبب تسليط الأعداء عليهم. ويعرف هذا، من استقرأ الأحوال والنظر، في أول المسلمين وآخرهم. * (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) * هذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين، لأعظم تجارة، وأجل مطلوب، وأعلى مرغوب، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز بالنعيم المقيم. وأتى بأداة العرض، الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كل معتبر، ويسمو إليه كل لبيب، فكأنه قيل: ما هذه التجارة التي هذا قدرها؟ فقال: * (تؤمنون بالله ورسوله) *. ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق به، المستلزم لأعمال الجوارح، التي من أجلها الجهاد في سبيله، فلهذا قال: * (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) *، بأن تبذلون نفوسكم ومهجكم، لمصادمة أعداء الإسلام، والقصد: دين الله، وإعلاء كلمته. وتنفقون ما تيسر من أموالكم في ذلك المطلوب، فإن ذلك، وإن كان كريها للنفوس، شاقا عليها، فإنه * (خير لكم إن كنتم تعلمون) *، فإنه فيه الخير الدنيوي، من النصر على الأعداء، والعز المنافي للذل والرزق الواسع، وسعة الصدر، وانشراحه. والخير الأخروي، بالفوز بثواب الله، والنجاة من عقابه، ولهذا ذكر الجزاء في الآخرة، فقال: * (يغفر لكم ذنوبكم) * وهو شامل للصغائر والكبائر فإن الإيمان بالله، والجهاد في سبيله، مكفر للذنوب، ولو كانت كبائر. * (ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) * أي: من تحت مساكنها وقصورها، وغرفها، وأشجارها، أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات. * (ومساكن طيبة في جنات عدن) *، أي: جمعت كل طيب، من علو، وارتفاع، وحسن بناء وزخرفة. حتى إن أهل الغرف من أهل
(٨٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 855 856 857 858 859 860 861 862 863 864 865 ... » »»