المنقطع بهم في غير أوطانهم. وإنما قدر الله هذا التقدير، وحصر الفيء، في هؤلاء المعينين * (كي لا يكون دولة) *، أي: مداولة واختصاصا * (بين الأغنياء منكم) *، فإنه لو لم يقدره، لتداولته الأغنياء الأقوياء، ولما حصل لغيرهم من العاجزين منه شيء، وفي ذلك من الفساد، ما لا يعلمه إلا الله. كما أن في اتباع أمر الله وشرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر، ولذلك أمر الله بالقاعدة الكلية، والأصل العام، فقال: * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *، وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، وظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول، يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول على حكم الشيء، كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله. ثم أمر بتقواه، التي بها عمارة القلوب والأرواح، والدنيا والآخرة، وبها السعادة الدائمة، والفوز العظيم، وبإضاعتها الشقاء الأبدي، والعذاب السرمدي، فقال: * (واتقوا الله إن الله شديد العقاب) * على من ترك التقوى، وآثر اتباع الهوى. ثم ذكر تعالى، الحكمة والسبب الموجب لجعله تعالى أموال الفيء، لمن قدرها له، وأنهم حقيقون بالإعانة، مستحقون لأن تجعل لهم، وأنهم ما بين مهاجرين قد هجروا المحبوبات والمألوفات، من الديار والأوطان، والأحباب والخلان، والأموال، رغبة في الله، ومحبة لرسول الله. فهؤلاء هم الصادقون الذين عملوا بمقتضى إيمانهم، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، والعبادات الشاقة، بخلاف من ادعى الإيمان، وهو لم يصدقه بالجهاد والهجرة وغيرهما من العبادات، وبين أنصارهم الأوس والخزرج الذين آمنوا بالله ورسوله طوعا ومحبة واختيارا وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا ومرجعا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر. فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام، وقوي، وجعل يزداد شيئا فشيئا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان. الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم * (يحبون من هاجر إليهم) *، وهذا لمحبتهم لله ورسوله، وأحبوا أحبابه، أحبوا من نصر دينه. * (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) *، أي: لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به، من الفضائل والمناقب، التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها. ويدل ذلك على أن المهاجرين أفضل من الأنصار، لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى، آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة. وقوله: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *، أي: ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها عمن سواهم، الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس، من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة. وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى، مقدمة على شهوات النفس ولذاتها، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه، حين آثر ضيفه بطعامه، وطعام أهله وأولاده، وباتوا جياعا. والإيثار عكسه الأثرة، فالإيثار محمود، والأثرة مذمومة، لأنها من خصال البخل والشح. ومن رزق الإيثار، فقد وقي شح نفسه * (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) *، ووقاية شح النفس، يشمل وقايتها الشح، في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعا منقادا، منشرحا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه، وإن كان محبوبا للنفس، تدعو إليه وتتطلع إليه. وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز. بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير، الذي هو أصل الشر ومادته. فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان، هم الصحابة الكرام، والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب، ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين. وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم، ويأتم بهداهم، ولهذا ذكر الله من اللاحقين، من هو مؤتم بهم، فقال: * (والذين جاءوا من بعدهم) *، أي: من بعد المهاجرين
(٨٥١)